يرسم الشاعر الباكستاني محمد إقبال لاهوري، ملامح من عظمة شخصية السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في أشعاره حبا وإجلالا لهذه المرأة الكاملة القدوة.
قدم النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” فاطمة الزهراء للمجتمع الاسلامي على أنها أمرأه كاملة بقوله: ” كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا أربع: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران ” [1] فما وجه الكمال في شخصيتها التي رصدها شاعر اسلامي لديه القدرة على استكشاف مواطن الجمال والقوة في الشخصية الانسانية؟
إن المرأة وفق المنظور الاسلامي تكون في شخصيتها وفي هويتها شخصية مستقلة وجسدت النصوص هذه الاستقلالية وعبرت عنها. وانطلاقا من هذا المبدأ يمكن أن نقول بأن المرأة تتحمل المسؤوليات العامة في المجتمع الانساني ، كما يتحملها الرجل على حد سواء. وقد يختلف الحال في تقسيم الأدوار، فيكون لشخص ما دور ما ولشخص آخر دور آخر وهكذا، ولكن من حيث الأساس في حركة المجتمع تكون الواجبات واجبات مشتركة[2].
إن الشاعر محمد إقبال يرى أن فاطمة الزهراء “عليها السلام” قدوة، والقدوة لا تكون إلا لمن تهيأت لديه قدرات نفسية وعقلية وسيرة صالحة للاقتداء، وقد قدم الشاعر محمد إقبال صورة لفاطمة الزهراء “عليها السلام” مستوحاة من تأثيرها في بيئتها الاسلامية، ولذلك يمكن القول “ان البيئة تمثل مصدراً رئيساً لدعم المبدع، فعبرها يكون صوره وأخيلته التي تعتمد بالكلية على التأثير الفعلي بما هو حوله وبما يتلقفه او قد تلقفه عقلهن ليتفاعل الواقع مع ما هو عقلي، فيمتزجان ليكونان صورة بديعية ترجمتا كلمات خاصة عبرت عن أحاسيس خاصة …” [3] فيقول:
ما سيرة الابناء الا الأمهات فهم اذا بلغوا الرقي صداها
هي أسوة للأمهات وقدوة يترسم القمر المنير خطاها [4]
وهناك صورة أخرى يقدمها محمد أقبال من وحي حبه وتعلقه بالزهراء “عليها السلام”، هي تعلقها بالمجتمع الاسلامي، وخدمته بكل ما اوتيت على الرغم من شظف العيش وحياة الزهد التي اتسمت بها حياتها، ويمكننا القول إن الزهراء “عليها السلام”، كانت في بيت الزوجية قدوة لمن جاء بعدها من الزاهدات والعابدات اللواتي امتلأت كتب الرقائق والزهد بذكرهن، اذ يقول:
لما شكا المحتاج خلف رحابها رَقَت لتلك النفي في شكواها
جادت لتنقذه برهن خمارها يا سحب أين نداك من جدواها [5]
يلجأ الشاعر بتقديم فاطمة الزهراء “عليها السلام” بالتقية العابدة الزاهدة التي هجرت الدنيا وارتضت العيش الكفاف، وهي في ذلك تقتبس من هدي النبوة وتسير على خطى أبيها النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” وتقتدي أيضا بسيرة زوجها الذي كانت سيرته شكلاً من أشكال التجسيد الفعلي للتعاليم الاسلامية فيقول:
نور تهاب النار قدس جلاله ومنى الكواكب ان تنال ضياها
جعلت من الصبر الجميل غذاءها ورأت رضا الزوج الكريم رضاها
فمهــــا يردد اي ربـــك بينمــــــا يدها تدير على الشعير رحاها
بلت وسادتها لآلـــــي دمعها من طــول خشـــيتها ومن تقــواها
جبريل نحو العرش يرفع دمعها كالطل يروي في الجنان رباها[6]
ثم ينتقل الشاعر محمد اقبال الى ميزة أخرى للزهراء “عليها السلام” في تتابع سريع لخصالها الرائعة، اذ انها أم للحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، يبلغ التعبير الانفعالي للشاعر مداه، حين يتم الربط الواجب بين أفراد عائلة سارت على الخطى النبوية الشريفة، كما في قوله:
في روض فاطمة نما غصنان لم ينجيهما في النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دا تره الوئام والاتحاد ابناها
حسن الذي صان الجماعة بعدها امسى تفرقها يحل عراها
ترك الخلافة ثم اصبح في الديار امام الفتها وحسن علاها
وحسين في الاحرار والابرار ما ازكى شمائله وما انداها [7]
وعليه إن العلاقة بين فاطمة وابيها النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” تفهم من خلال قراءتنا لما ورد من الاحاديث النبوية التي تؤكد أن سيرة الزهراء “عليها السلام” بما تحمله من قيم اسلامية وانسانية راقية تجسيد حي لها، لقد وقفت سيدة نساء العالمين فاطمة مع ابيها النبي الاكرم في محنة دعوته، وتحملت معه وهي طفلة صغيرة اهوالا لا تحتملها الجبال الراسيات، كانت تشاهد كفار مكة وهم يلقون بمختلف شرّهم على ابيها مستهزئين به وبدعوته، فتتجه “عليها السلام” اليه لتسانده في أوجاعه، وذلك كانت اذا دخلت على النبي الاكرم قام اليها فقبلها واجلسها في مجلسه[8] وحين تزوجت من الامام علي “عليه السلام” وسكنت في بيتها كان النبي الاعظم “صلى الله عليه واله” يزورها حباً اليها واطمئناناً عليها فهي الشخصية الأحب الى قلبه.
واذا أوغلنا في شعر الشاعر الكبير محمد اقبال نجده يذكر زواجها من الامام علي “عليه السلام” انه الفخر الذي ما بعده فخر، وقصة زواج السيدة فاطمة من أعجب القصص [9]. اذ يقول:
ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاج يفوق الشمس عند ضحاها
أسد بحصن الله يرمي المشكلات بصقيل يمحو سطور دجاها
ايوانه كــوخ وكـنز وسيف غــــــــــــــــدا بيمينـــــــه تياهـــــــــا
وكانت السيدة فاطمة مشاركة فعالة في الدعوة منذ أن وعت الحياة وتعلمت أن تتحمل كل اشكال الاذى في سبيل هذه الدعوة وما استكانت بل بقيت ثابتة رابطة الجأش.
وقد تمكن الشاعر محمد إقبال من صياغة القصيدة بهذه السلاسة وبهذه الرقة والنعومة لتناسب رقة الحديث عن إمرأة، وكأنه يحاول ايضا ان يعزيها بشظف العيش وشدة معاناتها منذ كانت طفلة وقفت مع ابيها النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” بهذه الالفاظ الرقية النابعة من قلب شاعر أغرمه حب الزهراء وذاتها وينقل عبر الحديث عنها صوتها الى الأمة عبر طرح الاسئلة والإجابة عنها.
—-
المصادر :
[1] ابن عساكر، الاربعين في مناقب امهات المؤمنين، تحقيق محمد مطبع الحافظ، (دمشق، دار الفكر، 1406)، ص85.
[2] للمزيد من التفاصيل ينظر : نوال نوري، نساء خالدات في ظل الاسلام، (الموصل: مطبعة الانتصار، 2010)،85.
[3] وسام قبائي، عامريات ابن دراج القسطلي، (دمشق: وزارة الثقافة )، ص484.
[4] عبد الواحد الغوري، ديوان محمد اقبال، (دمشق، دار بن كثير، 2005)، ج1، ص73
[5] المصدر نفسه .
[6] عبد الواحد الغوري، المصدر السابق.
[7] المصدر نفسه .
[8] يحيى الدين ابي زكريا النووي، الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من اهل الاسلام، تحقيق احمد راتب حموش، (ادار الفكر،1402)، ، ص42.
[9] نوال نوري، المصدر السابق ، 84-86.