من الصفات التي اشتهر بها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) صفة “الكاظم”
معنى الكاظم
الكاظم في اللغة من الكَظَم وهو مخرج النفس من الحلق1. وعليه فمعنى كظم غيظه كظماً أي تجرّعه وحبسه، فالكظيم هو الحابس نفسه2. وقد وردت هذه الصفة في القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ”3 مدحاً بهم كما ورد في الأحاديث مدحاً كبيراً بالكاظمين غيظهم فقد ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): “كاظم الغيظ كضارب السيف في سبيل الله”4. وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): “من كظم غيظه وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً إلى يوم القيامة”5.
وخلاصة معنى كظم الغيظ هي السيطرة على النفس بأن يكون العقل هو الحاكم والسلطان عليها، فهو انتصار للعقل في مقاومة داخلية يتغلّب فيها على سائر القوى الباطنية الأربعة التي تُعتبر مصدر تصرّفاته وهي:
1- قوّة الشهوة التي هي مصدر أكل الحرام، والزنا، والنظر إلى الحرام، ونحو ذلك.
2- قوة الغضب التي هي مصدر النظرة المؤذية، والضرب، والقتل، ونحو ذلك.
3- قوة الوهم التي هي مصدر التخطيط لارتكاب الحرام، كأن يخطِّط-مثلاً- كيف ينسخ مفتاحاً شبيهاً للخزنة كي يسرقها، وكيف يتلاعب بالفواتير والحسابات، ونحو ذلك.
4- قوّة العقل التي هي مصدر تدبّر عواقب الأمور للجم الشهوة والغضب والوهم فيما إذا اتجهت نحو الانحراف، وبالتالي فالعقل مصدر الكظم.
فالكاظم هو الذي يسيطر بعقله على القوى الباطنية الأخرى حينما تنحو باتجاه الانحراف في مقاومة داخلية يكون العقل هو المنتصر فيها.
الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) وصفة الكظم
امتازت حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) بالمواجهات الكبيرة التي استطاع فيها من خلال مقاومته أن يكون المنتصر في موقع الكظم والصبر حتى حُبسَ حوالي أربعة عشر عاماً، وقيل ستة عشر عاماً، ظلّ فيها كاظماً صابراً، لكن لا صبر الساكت بل صبر المقاوم الذي لا يهادن على الحقّ.
ومن أمثلة ذلك في سيرته المباركة تجاهره بالمطالبة بإرجاع حقّ الخلافة إلى أهلها الحقيقيين، فقد ورد أن الحاكم المهدي أعلن أنّه يريد ردّ المظالم إلى أهلها، فدخل عليه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) قائلاً:
– ما بال مظلمتنا لا تُردّ؟!
– فسأل المهدي: ما ذاك يا أبا الحسن؟
– فأجاب الإمام (عليه السلام): فدك.
– فقال المهدي: حِدّها لي.
– فأجاب الإمام (عليه السلام): حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل”6.
وكان (عليه السلام) يدعو الناس إلى الصبر والكظم في قضايا الحقّ بأن لا يداهن فيها ولا يضعف أمامها، مهما كانت التكلّفة، فعنه (عليه السلام): “قل الحقَّ، وإن كان فيه هلاكك؛، فإنّ فيه نجاتك، اتقّ الله ودع الباطل، وإن كان فيه نجاتك؛ فإنّ فيه هلاكك”7 ومن المواقف التوجيهية للإمام الكاظم (عليه السلام) لأصحابه للمقاومة في سبيل الحقّ وللصبر والكظم في هذه المواجهة:
1- ما ورد في حواره مع أحد أصحابه ويُدعى صفوان الذي كان صاحب جمال للكراية والإجارة أي لديه مكتب لتأجير الجمال.
قال له الإمام (عليه السلام): “كلُّ شئ منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.
فقال للإمام: جعلت فداك أيّ شيء هو؟
فأجاب (عليه السلام): كراؤك جمالك من هذا الطاغية – يعني هارون –
فقال صفوان: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق – يعني طريق مكة – ولا أتولاّه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
فسأله الإمام (عليه السلام): يا صفوان أيقع كراك عليهم؟
قال: نعم جعلت فداك .
سأله الإمام (عليه السلام): أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك؟
قال: نعم!
فقال له الإمام (عليه السلام): من أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً للنار”8
2- ما قاله الإمام (عليه السلام) لزياد ابن أبي سلمه: “يا زياد، لأن أسقط من شاهق فأتقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولَّى لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم. “
خلفية مواقف الإمام (عليه السلام)
إنّ كظم الإمام (عليه السلام) في مقاومته يمكن أن تُقارب خلفيتها فيما –باعتبار ما نستفيده في حياتنا- من أمرين أساسيين:
الأوّل: هو الشعور بالقوّة بسبب الإيمان بأنَّ الله تعالى وهو الأكبر والأعظم هو أقرب إلى المؤمن من أيّ شيء.
قال أبو حنيفة للإمام الصادق (عليه السلام): “رأيت ابنك موسى (عليه السلام) يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم وفيه ما فيه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ادعوا لي موسى، فدعي، فقال (عليه السلام) له: يا بني، إن أبا حنيفة يذكر أنَّك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك، فلمْ تنهَهَم فقال (عليه السلام): نعم يا أبتِ، إنَّ الذي كنت أصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عز وجل: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾9.
الثاني: هو ما أشار إليه الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله: “كفى بالتجارب تأديباً”10-.
فنحن حينما ننظر إلى تجارب الآخرين ونقارن بين مصير من سار في طريق الحقّ دون مهادنة وبين مصير من داهن الظالمين وسار في طريق الظلم، فإنّ التجربة خير مؤدِّب.
انظروا إلى التاريخ
أين الأمويون، أين العباسيون؟!
لقد قَتل الأمويون والعباسيون أئمة أهل البيت(عليه السلام)، ولكن ماذا كانت النتيجة؟!
لقد مات ذكر الأمويين والعباسيين، وبقي ذكر أهل البيت (عليه السلام) يصدح من المنابر والقباب، وبقيت مدرستهم صانعة قيماً ناصعة ومقاومات رائدة، ومقامات شامخة.
انظروا إلى الحاضر
أين الشاه، وصدام، مبارك، والقذافي؟!
وأين الإمام الخميني (ره) الذي حكم من غرفتين صغيرتين، لكنّه قلب العالم، وأظهر مدرسة الإسلام المحمّدي الأصيل على نضارته واستقلاله عن الظالمين، فأعلن ثورته هي لا شرقية ولا غربية علّمت المستضعفين الحرية والاستقلال والإباء. والأهمّ من ذلك أنها أظهرت قدرة الإسلام على صناعة المجتمع الراقي، فكانت نجمة هادية إلى عظمة الإسلام.
سماحة الشيخ أكرم بركات
1- ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص 52.
2- المصدر السابق نفسه.
3- آل عمران، 134.
4- الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج2، ص 393.
5- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص 477.
6- الكليني، الكافي، ج1، ص 543.
7- المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص 79.
8- القرشي، النظام السياسي في الإسلام، ص 105.
9- الكليني، الكافي، ج3، ص 297.
10- الطوسي، الآمالي، ص 203