1- صفات الوليّ في عصر الغيبة
مقتضى الأدلة المتقدمة على ولاية الفقيه، أن يؤخذ في ولي الأمر من الشروط والأوصاف ما يحقّق الهدف المنشود لإقامة حكومة العدل والنظام الإسلامي، ولعل دليل العقل يقضي بأن تكون الولاية والحاكمية للأفضل والأولى باعتبار ما يملك من مؤهلات وكفاءات.
ومع ذلك فالنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام وضحت بدقة الشروط, ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة محاور أساسية كما تقدم:
الأول: الفقاهة أو العلم الواسع الشامل لجميع ما يبتلى به الولي في شؤون الحكم وهذا يقتضي أن يكون:
1- مجتهداً، أيّ قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية حيث إنّه ما من واقعة إلا ولله فيها حكم, فلا بد أن يكون الفقيه قادراً على استنباط الأحكام في كافة المجالات الخاصة والعامة.
2- عارفاً بأمور زمانه: حيث إنَّ معرفة أمور الزمان تعتبر أمراً ضرورياً في عملية الاستنباط حيث لا بد للفقيه أن يعرف الموضوع معرفة تامة حتى يطبق الحكم على الموضوع وإلا كان اجتهاده ناقصاً. فالأحكام تتغير بتغير الموضوعات.
الثاني: الحصانة الأخلاقية وتعني
أ- العدالة: وهي ملكة نفسانية بمستوى عالٍ تدفع إلى فعل الواجب وترك الحرام.
ب- التقوى الورع: وهو عدم الانكباب على الدنيا جاهاً أو مالاً.
وقد اشترطت هذه الصفات ليكون أميناً على الأمر بعيداً عن الأهواء والمطامع الدنيوية, لأنّ المسؤولية كبرى, وهي مزلّة الأقدام ومظنّة السقوط في شباك الهوى وزينة الدنيا. وقد اشترطوا العدالة في من يستأمن على أبسط الأموال, فكيف بمن يستأمن على الأموال والأنفس والأعراض ونظام الملة وزمام الدين.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، أنَّه قال: “لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم”1.
وروي عن الإمام الحسين عليه السلام: “ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله”2.
الثالث: الكفاءة الإدارية أو القدرة على الأمر، وهذا يتطلب خبرةً إداريةً عاليةً ووعياً سياسياً واسعاً، وضبطاً ودقّة، ويتطلب أيضاً شجاعة وثباتاً، وكل ذلك من البداهة بمكان بحيث لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، ومع ذلك فقد دلّ عليه عِدّة نصوص:
منها: قول أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام: “أحقُّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه”3 ولا يكون أقوى إلا بالصفات التي ذكرنا.
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أن يكون الولي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين، البخيل فتكون أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة”4.
ومنها: ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: “للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس..”5.
وهذه العلامات وإن كانت للإمام المعصوم عليه السلام إلا أنَّه يفهم منها اعتبار الأعلمية والأفضلية لغيره عند غيبته.
وغير هذه الروايات كثير. وإذا كان بعضها يريد إثبات إمامة الأئمة المعصومين عليهم السلام من خلال تعداد صفاتهم وإبطال إمامة أئمة الجور الذين عاصروهم، فإنَّ الصفات هذه شرط في الولاية مطلقاً، والأئمة عليهم السلام هم أبرز مصاديقها وأكملها.
الكسر والانكسار في الصفات
نتيجة تفاوت الفقهاء بالصفات المتوفرة, فقد نجد من هو أكثر ورعاً وتقوى وأقلُّ فقاهة، أو أكثر فقاهةً وأقلُّ كفاءة في السياسة والتدبير وإدارة الدولة، أو أكثر فقاهة في بعض أبواب الفقه، كالأبواب الخاصة بالعبادات، ولكنَّه أقلُّ فقاهة في الأبواب المرتبطة بالقضاء والجهاد والسياسات. وحينئذٍ، فلمن تكون الولاية للأفقه أو للأتقى أو للأقدر على الأمر؟!.
في هذه الحالة لا بد من إجراء حالة توازن بين الصفات، وملاحظة ما هو أكثر مساساً بالموقع والمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه. وهو ما يطلق عليه اسم الكسر والإنكسار في الشروط، وهو أمر متعارف في كافة الوظائف والمسؤوليات عند اختيار الأنسب لها.
خاصة أنَّنا لا يمكننا التنازل عن أيَّة صفة من هذه الصفات لمصلحة الأخرى، وإنّما الكلام في التنازل عن الأكمل والأفضل في صفة معيِّنةً، لصالح الأكمل والأفضل في صفة أخرى، فالتفاضل يقع بين مستويات انطباق الصفات لا بين الصفات نفسها.
2- صلاحيات الولي الفقيه
بعد أن تمّ إثبات أصل الولاية للوليّ الفقيه، وتقدّم أنّ إجماع العلماء قائم على ثبوت أصل الولاية، وقع الخلاف في حدود هذه الولاية ودائرة صلاحيّات الوليّ، والمعروف بين الفقهاء قولان:
أ- القول بالولاية الخاصّة
وهي تعني الولاية في الأمور الحسبيّة وهي عند الفقهاء ولاية القضاء وإقامة الحدود وحفظ الأوقاف ومال الغائب والقاصر والتصرّف بسهم الإمام| في الخمس وأمثال ذلك ممّا يقع في دائرة ولاية المعصوم، ولا تقام في الأصل إلا بإذنه، لكن ثبت أنّ الشريعة المقدّسة والأئمّة المعصومين عليهم السلام لا يرضون بتركها في عصر الغيبة وتضييعها.
ودليل هذا القول: أصالة عدم ولاية أحد على أحد إلا ما خرج بالدليل، فإنّه بعد عدم تماميّة الدليل على الولاية العامّة ـ الآتي شرحها ـ عند أصحاب هذا القول، تبقى الأمور الحسبيّة ـ السابقة الذكر ـ بنظرهم هي القدر المتيقّن من ثبوت الولاية.
وقد ردّ هذا القول: بأنّ معنى الأمور الحسبيّة أوسع ممّا تصوّره أصحاب هذا القول، لأنّ إقامة الحكومة الإسلاميّة التي تحيي الشريعة الإسلاميّة، وتحفظ أحكامها، وتحمي مصالح الدين، وأمور المسلمين، وتمنع الظلم والفساد، تعتبر من أهمّ الأمور الحسبية التي لا يرضى الله سبحانه، ولا رسوله ولا الأئمّة المعصومون عليهم السلام، بتركها والتخلّي عنها، فمفهوم ومعنى الأمور الحسبيّة يشمل دائر الولاية العامّة أيضاً.
ب- القول بالولاية العامّة
ومعنى الولاية العامّة هي أنّ للوليّ الفقيه إقامة الحكومة الإسلاميّة بكلّ ما تشمله من التصرّفات، لا بخصوص الأمور الحسبيّة السابقة، بل تشمل إضافة إلى ذلك التصرّف بالأموال العامّة والنفوس، كالجهاد، ممّا كان ثابتاً للمعصوم عليه السلام من حيث هو قائد وحاكم، والفقيه يمارس صلاحيّاته في هذه الدائرة الواسعة بحكم كونه نائباً عن المعصوم.
الدليل على الولاية العامة
إنَّ الروايات جعلت للفقيه ولاية بما هو نائب عن الإمام المعصوم الحاكم المفترض الطاعة، بنحو واسع الصلاحية يشمل كل ما ثبت للإمام المعصوم الحاكم، وذلك لأنَّ الروايات والنصوص الشرعية لم تخصص نيابة الفقيه عن المعصوم الحاكم بصلاحيات دون أخرى، بل أثبتتها للفقيه دون قيد، فتكون مطلقة وشاملة، ونافذة في دائرة كل ما كان للمعصوم الحاكم، إلا ما خرج بالدليل، كما إذا علمنا أنَّ الحكم بالجهاد الابتدائي – مثلاً – ثابت للمعصوم عليه السلام بما هو معصوم لا بما هو حاكم فالولاية لا تثبت للفقيه حينئذٍ في هذه الجزئية.
ولذا كان للفقيه كلُّ ما كان للمعصوم فيما يرجع إلى إقامة الحكومة وما تستلزم من تصرفات بالأموال والأنفس وغير ذلك مما كان ثابتاً للمعصوم عليه السلام من حيث هو قائد وحاكم.
للمطالعة
الولاية الاعتبارية
عندما نثبت نفس الولاية التي كانت للرسول لله والأئمة عليهم السلام للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمنَّ أحد أنّ مقام الفقهاء نفس مقام الأئمة عليهم السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، لأنَّ كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنَّما عن الوظيفة. فالولاية؛ أي الحكومة وإدارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدس هي وظيفة كبيرة مهمة، لكنَّها لا تحدث للإنسان مقاماً وشأناً غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الإنسان العادي. وبعبارة أخرى فالولاية التي هي محل البحث، أي الحكومة والإدارة والتنفيذ ليست امتيازاً، خلافاً لما يتصوره الكثيرون، وإنّما هي وظيفة خطيرة.
فالقيّم على الأمّة لا يختلف عن القيّم على الصغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأنَّ الإمام عليه السلام قد عيَّن شخصاً لأجل “حضانة” الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم والإمام والفقيه. فمن الأمور التي هي ضمن ولاية الفقيه تنفيذ الحدود (أي تطبيق القانون الجزائي للإسلام) فهل هناك اختلاف في تنفيذ الحدود بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم والإمام والفقيه؟ أم أنَّه لأنَّ الفقيه أدنى رتبة، فيجب أن تكون السياط التي يجلدها أقلّ عدداً؟!6.
*ولاية الفقيه في عصر الغيبة،إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط8، نيسان 2009، ص43-52.
1- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية,آخوندي-الطبعة الخامسة /ج 1/ص704/ ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت R- ج 1 ص 407.
2- المفيد كتاب الارشاد/مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث – الطبعة الثانية 4141-ج2 /ص 93.
3- نهج البلاغة/الإمام علي عليه السلام /خطبة 173/ج 2/ص 86.
4- نهج البلاغة – خطب الإمام علي عليه السلام – ج 2 ص 14.
5- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصححة – ج 25 ص 116.
6- الخميني – روح الله الموسوي – الحكومة الإسلامية – 81- 82.