لأنّ المحبّة هي أحد الأركان المهمّة والأساسيّة في رفع نسبة الوفاق بين أفراد الأسرة الواحدة، سيستكمل هذا المقال ما كنّا قد بدأناه في العدد السابق حول مظاهر المحبّة، إذ سيضيء على مسائل هي في غاية الأهميّة، من شأنها أن تحقّق السلام والوفاق تحت سقف البيت الواحد.
•التمييز الممقوت
من جملة الأشياء التي تسلب المحبّة في الوسط العائليّ، والتي ينبغي لنا أن نحذرها، التمييز الممقوت بين الأبناء، أو الأصهار، فترى على سبيل المثال، أنّ إحدى البنات ترث أكثر من أختها، أو قد يُحرم أخوها وترث هي، والسبب هو حبّ الأبوَين لتلك الابنة مثلاً، أو قد يحرم أحدهم ابنته من الإرث -والعياذ بالله-؛ لأنّه لا يحبّها، وعندما تسأله عن ذلك، يبرّر عمله بشتّى التبريرات المزخرفة.
إنّ هذه المسائل وغيرها يمكن أن تحيد بالبنت أو الابن عن جادّة الصواب؛ فتبرز الجنايات والخيانات، وكلّ ما يسيء إلى الإنسانيّة والبشريّة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “رحم الله من أعان ولده على برّه، فسُئل: كيف يعينه على برّه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به، فليس بينه وبين أن يصير في حدٍّ من حدود الكفر، إلّا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم”(1).
•أعينوا أبناءكم على البرّ
قد يكون الوالدان -مثلاً- اللذان يعينان أبناءَهما على العقوق؛ لأنّ الابن عندما يرى أمّه مسيئة لزوجته، ومعتدية عليها بدون سبب يُذكر، سيجد مبرّراً (غير حقيقيّ) لإبداء بعض الخشونة معها، فيضحي عاقّاً بحقّها، وعندها يخسر خير الدنيا، وخير الآخرة.
مثال آخر: عندما يرى ابن أنّ والده يميّز بينه وبين أحد إخوانه، سيصاب بالحزن ويسيء الظنّ بالوالد -والعياذ بالله- عندها يستسهل استغابته، وذكره بالسوء وأحياناً مناكفته وعدم احترامه، وهذا هو العقوق.
•احترام الأبوَين واجب
ليعلم الشباب أنّ احترام الأبوين واجبٌ ولازم، حتّى لو كانا أميّين أو غير مثقّفين: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23).
قال الإمام الصادق عليه السلام: “برّ الوالدين من حسن معرفة العبد بالله، إذ لا عبادة أسرع بلوغاً لصاحبها إلى رضاء الله من برّ الوالدين المؤمنين لوجه الله؛ لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ الله تعالى، إذا كانا على منهاج الدين والسنّة، ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة [الله] إلى طاعتهما، ومن اليقين إلى الشكّ، ومن الزهد [إلى] الدنيا، ولا يدعوانه إلى خلاف ذلك، فإذا كان كذلك فمعصيتهما طاعة، وطاعتهما معصية، قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ (لقمان: 15). وأمّا في باب المصاحبة فقاربهما، وارفق بهما، واحتمل أذاهما بحق ما احتملا عنك في حال صغرك، ولا تضيّق عليهما في ما قد وسّع الله تعالى عليك من المأكول والملبوس، ولا تحوِّل وجهك عنهما، ولا ترفع صوتك فوق صوتهما، فإنّ تعظيمهما من أمر الله، وقل لهما بأحسن القول والطف بهما، فإنّ الله لا يضيع أجر المُحسنين”(2).
•بما قدّمت أيديكم!
أيّها الآباء! أيّتها الأمّهات! لا ينبغي لكم التمييز بين أولادكم في المحبّة، ولا يجدر بكم أن تميّزوا بين الصغير والكبير، أو الصبي والبنت؛ لأنّ ذلك يبعث على خلق الخلافات بين الأبناء فتكونوا مذنبين، وقد يجرّ ذلك العداء إلى الأجيال القادمة، وهذا ما نشاهده فعلاً في بعض مجتمعاتنا المعيشة.
إنّ جميع هذه المسائل تُعدّ أسباباً لقطع رحمٍ، ولوجود اختلافات ونزاعات تُعدّ معاصيَ وآثاماً، لكن من يحمل وزرها، هو من كان سبباً في وجودها.
إنّه تقصير ذلك الأب الذي كان يميّز بين أبنائه، ولا يساوي بينهم أبداً، كونه كان يحبّ أحدهما، ويبغض الآخر، وهذا ذنبٌ في نظر أهل القلوب الحيّة.
أيّها السادة! أيّتها السيّدات! إنّ ما تعيشون فيه اليوم من مصائب وخلافات ونزاعات بين أبنائكم وأحفادكم، مرجعه إلى التمييز الممقوت الذي زرعتم بذوره أنتم حينما تقبّلون أحدهم، وتتركون الآخر دون مساواة وعدل.
•المعاملة العادلة
أيّها الأبوان! عليكما أن تحذرا التودّد إلى أحد الأبناء في الوقت الذي يسمع أو يرى ابن آخر حديث الودّ ذاك، واعلما أنّ ذلك الابن سيعاني من مشكلةٍ إذا بقيَ تعاملكما ذاك على وضعه. فكم هو جميل ذلك التعامل الذي يتساوى فيه الأبناء جميعاً، وكم هو مُحسنٌ وحكيمٌ ذلك الأب الذي يحتضن ولديه الواحد تلو الآخر، ولا يقتصر على أحدهما بذلك الفعل!
قال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: “قال والدي عليه السلام: والله، إنِّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي وأكثر له المحبّة، وأكثر له الشكر، وإنَّ الحقّ لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته، وما أنزل الله سورة يوسف إلا أمثالاً؛ لكيلا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسف إخوتُه، وبغوا عليه”(3).
•طريقٌ إلى حلّ الخلافات
أيّها الآباء! لا ينبغي لكم أن تميّزوا بين أبنائكم، ولو فعلتم ذلك، لخرّبتم بأيديكم أساس المؤسّسة الأسريّة. وعلى العكس من ذلك، فإنّ حكم المحبّة في البيت يسمو بكلّ العائلة إلى علّيين، ويرفع معه ثلاثين في المئة من مجمل النزاعات أو الخلافات التي يمكن أن تحدث من دون تلك المحبة.
(*) مستفاد من كتاب: الأخلاق البيتيّة، الفصل العاشر.
1.الكافي، الكليني، ج 6، ص 50.
2.مصـبــاح الشريعــة، منســــوب لـلإمــــام الصادق عليه السلام، ص 70.
3.الحدائق النضرة، البحراني، ج 2، ص 324.