Search
Close this search box.

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات

“التكافل الاجتماعيّ” أو “خدمة الناس”، هي من أبرز العناوين المطروحة اليوم ضمن إحدى الخطوات المطلوبة لمواجهة التحدّيات التي يفرضها فيروس كورونا، خاصّةً مع شلل الدورة الإنتاجيّة والاقتصاديّة، وتضرّر الكثير من الأفراد والعائلات مادّيّاً ومعنويّاً؛ الأمر الذي استدعى تكاتف الناس وتظافر جهودهم لتقديم المساعدات للمحتاجين.
انطلاقاً من هنا، ما أهميّة خدمة الناس وقيمتها عند الله عزّ وجلّ، وتحديداً في أحلك الظروف؟

* “فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْكُمْ”
يسجّل لنا التاريخ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيباً في صلاة الجمعة الأولى بعد وصوله إلى المدينة، فحمد الله تعالى، وأوصى رعيل المسلمين الأوّل بجملةٍ من الوصايا التأسيسيّة، وكان منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْكُمْ”(1)، وهو بذلك رسم معالم الطريق الأخلاقيّ الأسمى، لدينٍ أراده الله سبحانه خاتمة تشريعاته، وارتضاه منهجاً تامّاً في مختلف شؤون الإنسان وحياته.
من هنا، حقّ لنا القول إنّ الإحسان بوصلةٌ إيمانيّة تُسَيّر الإنسان المسلم في علاقاته كافّة، وَتؤطّر آداب سلوكه وتوجّهاته، سواء تلك المتعلّقة بالله تعالى (الخالق)، أو المرتبطة بواقعِ الاجتماع مع الناس (المخلوق)، فتضع ذلك الفرد الممثّل لـ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ (آل عمران: 110) على سكّة الفاعليّة الموصلةِ إلى ساحات الكمال المنشود من هدفِ الحياة والخلقَة.

ومن خلال تتبّع المأثور عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، فإنّا نجد أنّ الإحسانَ للناس قد تعاظم شأنه، واشتدّ بيانه، فكانت الروايات في حروفها مؤكّدةً على مصاديقه وتجلّياته، وعلى رأس ذلك خدمة الناس، واستجلاب المنافع لهم، ودفع المفاسِد عنهم، إلى حدّ أنّه وردَ في لسانِ بعضها استحباب رفع الحجر عن طريق المارّة، حمايةً لمسراهم، ورفعاً للمخاطر والضرر.

* أحبّ الناس إلى الله
إنّ المتفاعِل مع محيطه بطاقةٍ إيجابيّة حسَنة، يخرج عن أناه، ويصبح مشتغلاً بغيرِ هواه، فيتجاوز عقبات النفسِ ولذّاتها، ويكون في قمّة توجّهه للآخر مزكّياً لنفسه، بانياً لروحه، حتّى تنعكس الفضيلة خارجاً فيحرص تالياً على خدمةِ الناس ونفعهم، أو يدرأ المخاطر عنهم بروح المحبّة والتراحم لا بعنوانِ المصلحة والتعاظم! ويحقّ له حينها أن يكون حبيباً قريباً من الله تعالى؛ لأنّه كان ممّن ﴿تَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة﴾ (البلد: 17)، فتنزّلت عليه رحمة السماء. وقد وردَ عن إمامنا الصادق عليه السلام أنّه قال: “سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ؟ فقَالَ: أَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ”(2).

* أحبّ الأعمال وأفضلها
تلك الخدمة التي تكون لوجه الله تعالى، يهمس فيها القلب بإخلاص: ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان: 9)، فهي من أفضل الأعمال وأحبّها إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، لذا وردَ في الحديث القدسيّ: “الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم”(3). وكلّما كانت المنفعة أشدّ، كان التفاضل آكد. وثمّة كلام لطيف للإمام الخمينيّ قدس سره يقول فيه: “واختر في خدمة عباد الله ما هو الأكثر نفعاً لهم وليس ما هو الأنفع لك ولأصدقائك، فمثل هذا الاختيار هو علامة الإخلاص لله جلّ وعلا”(4).

ولبيان فضيلة خدمة الإخوة، نجد أنّ إمامنا الصادق عليه السلام يقدّم خدمة الأخ على العِتق، بل على تجهيز ألف فَرَس مع سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، حيث قال عليه السلام: “لأن أسعَى مع أخٍ لي فِي حَاجَةٍ حتّى تُقضَى، أحبّ إليّ مِن أن أعتقَ ألف نسمَةٍ وأحمل على ألف فرس في سبيل اللَّه مُسرجة مُلجمة”(5). وفي أسلوب المبالغة والترغيب نفسه، يحدّثنا الإمام الباقر عليه السلام عن مدى حبّه لهذه العبادة الرائدة، فيقول عليه السلام: “لأن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأَكسوَ عورتهم، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً ومثلها ومثلها، حتّى بلغ السبعين”(6).

* التنافس في الخدمة
أمام عظمةِ ما ورَد تحت عنوان خدمةِ الناس وثوابها، فإنّ التنافس يُمتدح في المقام، والتخاذل يصبح مشيناً لمن أرادَ العافية والرضى. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “تَنَافَسُوا فِي الْمَعْرُوفِ لِإِخْوَانِكُمْ وَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الْمَعْرُوفُ لا يَدْخُلُهُ إِلّا مَنِ اصْطَنَعَ الْمَعْرُوفَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا”(7).
وحقيقةً، فإنّ من نعمِ الله علينا أن يوفّقنا لمهمّة الأنبياء والأوصياء، ومن لطيف عنايته أن يجعل أبوابنا ميقاتاً لأيدي المحتاجين؛ لأنّه تعالى ساقَ إلينا البشرى من خلالهم، ووفّقنا بتوكيلنا أمر رعايتهم، حتّى باتَ الخادم بحاجةٍ إلى المخدوم؛ لأنّ تلك الهبات الربّانيّة جاءت عن طريقه، فلا بدّ من أن نفتح أبوابَ وجوهنا بابتسامةٍ دائمة، مهما كانت ظروفنا قدرتنا، ولو قُدّر أن عرضَ أحدهم حاجةً علينا فلم تكُن في حيّز استطاعتنا، فلا أقلّ من أن نشغل قلبنا بالهمّ والدعاء لكشفِ حاجته، كما ورد عن إمامنا الباقر عليه السلام : “إنّ العبدَ لترد عليهِ الحَاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتمّ بها قلبه، فيدخله تبارك وتعالى بهمّه الجنّة”(8).

* ضرورة الإسراع في خدمة الناس
مع الأسف، إنّنا قد نتباطأ اليوم في إجابةِ إخواننا، أو نصطنع عدم معرفتنا بحالهم إنْ حلّ السوء بأحوالهم، فندّعي عدم المعرفة، ونراقب من بعيدٍ دون حراك! وقد ننتظر حتّى تطوف بهم الحاجة على أبوابِ الناس، فيبذلوا وجوههم، ونغفو نحن على وسائد التناسي بلا مبالاة! في حين أنّ من ردّ محتاجاً مع قدرته على إجابته يكون قد “ردّ عن نفسه رحمةً مِنَ الله”(9). من هنا، يحدّثنا الإمام الصادق عليه السلام بحديثٍ بالغ الأهميّة، يقول فيه: “إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته”(10)؛ فيؤكّد عليه السلام على لزوم المبادرة في قضاء الحاجة؛ لأنّ التباطؤ والمماطلة قد يفوّتان فرصةً ثمينة علينا إذا استغنى المحتاج بعد ذلك.
في النهاية، حذارِ “فإنّ المنّة تهدم الصنيعة”(11).

1- البداية والنهاية، ابن كثير، ج3، ص259.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص164.
3- (م.ن)، ج‏2، ص‏199.
4- الكلمات القصار للإمام الخمينيّ قدس سره، ص257.
5- بحار الأنوار، المجلسي، ج‏74، ص‏316.
6- (م.ن)، ج‏74، ص‏195.
7- جامع السعادات، النراقي، ج‏2، ص‏238.
8- الكافي، (م.س)، ج2، ص196.
9- (م.ن)، ج2، ص193.
10- بحار الأنوار، (م.س)، ج71، ص286.
11- ميزان الحكمة، الريشهريّ، حديث 12653.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل