لقد أصبح المعنى المتبادر الى الذهن من لفظ العبادة عند كثير من الناس محصوراً في تلك المجموعة من الأعمال، كالصوم والصلاة والحج والدعاء وأمثالها من الأقوال، التي يؤديها الإنسان بعيداً عن ممارسات الحياة وأجواء المجتمع.
وهذا المفهوم الضيق للعبادة لا يتناسب مع مفهوم القرآن الكريم وتعبيره عنها، فالقرآن يؤكد أن العبادة تتحقق في كل فعل أو تفكير أو احساس نفسي يصدر عن الإنسان ويقصد به التقرب الى الله سبحانه.
وبما أن العبادة: هي الصيغة العملية للتعبير والاعلان عن العبودية. فإن العبودية لا تتحقق إلاّ إذا جعل الإنسان كل أفعاله، وأعماله، من صلاة، وصوم، وجهاد، وحكم، وقيادة، وبيع وتجارة، وكسب، وتعامل مع الناس، ودفاع عن الحق، ومحاربة للفساد والطغيان، وتفكير في العلم، وكسب للعلم، وانتفاع به وأعمار الأرض واصلاحها.. إلخ، تسير وفق شريعة الله وأمره ونواهيه، ولا يقصد بها إلاّ التقرب منه، وكسب مرضاته.
ومن أجل هذا نرى القرآن الكريم: يخاطب الرسول ويدعوه الى الاخلاص في العبادة ليتحقق الاخلاص في العبودية، ويؤكد من خلال ذلك أن العبادة هي مظهر التعبير عن العبودية، لا تتم إلاّ بالسير على هدى القرآن، والالتزام بمنهجه، وتطابق الحياة مع شريعته وطريقة تنظيمه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، فاعْبُدِ اللهَ مخلِصاً لَهُ الدّينَ﴾([1]).
وينتج من ذلك أن مفهوم العبودية في الاسلام يتسع كلما اتسع مفهوم العبادة، ليشمل رعاية الإنسان للحياة والعناية بالجسم وحاجات البدن، والحفاظ على الصحة وتوفير العيش، بل ورعاية الحيوان والاهتمام بكل مظاهر الحضارة والمدنية واعمار الأرض، لأن كل هذا الاهتمام من الانسان يعبر عن الخضوع لارادة الله والتنفيذ لحكمته ومشيئته التي شاءت لهذه الكائنات ــ الإنسان والحيوان والنبات ــ أن تعيش تحت ظل رحمة الله تعالى، فيكون التعامل مع خلق الله وفق ارادته ومشيئته عبادة وتعبيراً عن الشعور بالعبودية والتوجه الى الله.
ولذلك توجه القرآن بالذم واللوم الى أولئك الذين ينشرون الخراب والدمار في الأرض، ويشيعون في ربوعها العبث والفساد، ويسعون للقضاء على مظاهر الحياة والعمران والمدنية فيها، فقال عز اسمه: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾([2]).
ولكي يتجلى لنا معنى العبودية، وتتضح لنا سعة انطباقها وشمولها لكلّ نشاطات الانسان الفردية والاجتماعية بصورة عامة ــ دون أن تنحصر مظاهرها في بعض الممارسات والشعائر ــ نبين فيما يلي المجالات التي تتحقق فيها العبودية، والمظاهر التي يعبر بها الإنسان عن عبوديته لله سبحانه وهي:
أ ــ التسليم العقلي:
ونقصد به الخضوع العقلي القائم على أساس الفهم اليقيني الواعي لعظمة الله وقدرته.
وهذا الخضوع يجب أن يكون نتاج القناعة العقلية الآتية: من التفكير بخلق الله وعظمته، بحيث تشكل هذه القناعة وضوحاً عقلياً كاملاً، لتكون قاعدة عقائدية أساسية للتسليم بالعبودية، ولتقوم عليها كل طوابق البناء الفكري والنفسي والسلوكي الذي يمارسه الإنسان.
لذلك وجه القرآن الكريم الأنظار الى تأملات ابراهيم وتسليمه ليستوحي منها المخاطبون مضامين التسليم العقلي المعبرة عن مفهوم العبودية لله، كيلا يقف العقل موقف الكبرياء والعناد المقيت: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾([3]).
ولذلك أيضاً عرض القرآن نموذجاً للإنسان المفكر الذي يستخدم عقله ووعيه في الوصول الى الحقيقة واستجلاء أبعادها فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾([4]).
فكل ذلك ساقه القرآن الحكيم لنكتشف الرابطة والعلاقة الكامنة بين التسليم العقلي بعظمة الله وتصاغر العقل أمامها، وبين الاحساس بالعبودية بعد أن نستنتج أن كل شيء في هذا الوجود خلق بعلم وحكمة الهية بالغة يعجز الإنسان عن مجاراتها، ويتصاغر أمام عظمتها، لينزع العقل رداء الغرور ويخلع ثوب الكبرياء، فينحني أمام عظمة الله ليعلن خضوعه وعبوديته لخالقه العظيم.
وقد ذمّ القرآن الكريم أولئك الذين ركبهم الغرور العلمي وخدعهم الكبرياء العقلي الأجوف فقال: ﴿فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾([5]).
ب ــ التوكل على الله وتفويض الأمر إليه:
والمظهر الثاني من المظاهر السلوكية المعبرة عن صدق العبودية لله: هو التوكل على الله، والاعتماد عليه والثقة به، وطلب العون والمساعدة منه، وعدم الاعتماد على أحد سواه.
قال الإمام الصادق عليه السلام: “الإيمان أربعة أركان: التوكل على الله، والرضاء بقضاء الله، والتسلم لأمر الله، والتفويض الى الله”([6]).
ويأتي مفهوم التوكل هذا نتيجة حتمية للإيمان الواعي الذي يرد تفسير العالم، والحوادث والمقادير الى الله سبحانه باعتباره الخالق، والمالك، والقادر.
وكل ما في الكون: من أسباب، وحوادث، وتغييرات فهي خاضعة لإرادة الله ومشيئته.
قال تعالى:
﴿.. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ..﴾([7]).
﴿… وَإِلَيْهِ يَرْجَعُ الأمْرُ كُلُهُ فاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ..﴾([8]).
ومن مظاهر التعبير عن العبودية لله هو: تفويض الأمر إليه، قال تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي الى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾([9]).
وليس من مظاهـر العبوديـة المتحققـة في سـلوك المتوكلين والمفوضين ظاهرة الاتكالية، والكسل وتعطيل مسؤولية الإنسان وواجبه الذي أن يمارسه وفق الأسباب والقوانين الطبيعية المودعة في هذا العالم.
بل إن الأمر عكس ذلك، فإيمان المسلم بدور الأسباب والعلل الطبيعية في انتاج الحوادث والنتائج يركز مفهوم العبودية والخضوع في نفسه، بتجلي خضوع الحوادث والأشياء للقوانين الالهية الظاهرة في هذا العالم، والمسيطر على وجوده سيطرة تؤكد خضوعه واستسلامه وعدم قدرته على الخروج والتمرد، مما يوحي للإنسان بعموم هذه الحقيقة ــ حقيقة العبودية ــ وانضواء وجود تحتها.. فيتعامل مع الحوادث والأسباب والنتائج وموضوعاتها تحت ظل عبودية كونية شاملة.
بين العبادة والعبودية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) الزمر/2.
([2]) البقرة/502.
([3]) الأنعام/57.
([4]) آل عمران/191.
([5]) غافر/38.
([6]) تحف العقول ص382
([7]) الطلاق/3.
([8]) هود/321.
([9]) غافر/44.