إذا كانت قيمة كلّ امرئ ما يحسنه، فالمرء قيمته بالعلم الذي أخذه، ويزداد كمالاً بلحاظ عمّن أخذه، وكيف أخذه، ولما أخذه. وإذا غسل العلم بدموع الخشية، فلا تلومنّ صاحبه إذا أصابته الغشية حين دعائه؛ وذلك لجمال مُعانقِهِ، ولكمال مُصافِحِه، ولجلالة مُحدِّثِهِ، فهو أشرف موجود وأكمل وجود، فكيف بمن عجن نور علمه بوضاءة دمه؟ فهؤلاء ارتقوا في الدنيا منبراً، وقد تأوّه عليّ عليه السلام شوقاً لرؤيتهم، وفي الآخرة سكنوا محراباً، وقد تأوهوا شوقاً لرؤية جمال خالقهم، ومن بعض هؤلاء كميل بن زياد.
* من هو كميل؟
كميل بن زياد بن نهيك بن هيثم النخعي. كانت ولادته في اليمن، وقيل إنّها كانت قبل الهجرة النبويّة بعدّة سنوات. ترعرع في عائلة من أكبر القبائل المعروفة هناك، وينتسب إليها جماعة من خُلَّص شيعة عليّ عليه السلام، أمثال: مالك الأشتر، وهلال بن نافع وغيرهما… ثم أقام مع معظم أفراد القبيلة في الكوفة بعد الإسلام. وقد نقل “الحرّاني” في تحفه أنّه كان من أكابر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، واعترف به المؤالف والمخالف(1).
لكنّ ما قيل ونقل في تاريخ ولادته قبل الهجرة غير دقيق، لأنّ كميلاً استشهد عام 82هـ، وكان له من العمر سبعون عاماً؛ فبناءً عليه، يكون تاريخ ولادته سنة 12 للهجرة، فهو من التابعين، وليس من الصحابة. وقيل إنه عاش مائة عام، وقد شَهد صفّين، وكان شجاعاً فاتكاً وزاهداً عابداً(2).
* من ثقات الأمير عليه السلام
جاء ذكر كميل بن زياد في جلّ الكتب الرجاليّة والتاريخيّة، وعند الفريقين قديماً وحديثاً، ولم تختلف كلمات التبجيل مضموناً، وإن اختلف التعبير لفظاً، وهاكم بعض ما كتب عنه:
1- قال عنه الشيخ المفيد في الاختصاص “من السابقين المقرّبين من أمير المؤمنين”، وعدّه الشيخ الطوسي في “أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وفي أصحاب الإمام الحسن عليه السلام”، وأما البرقي فقد عدّه من “أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام”(3).
2- ونقل العلامة المامقاني عن الذهبي أنّه كان “شريفاً، مطاعاً، ثقةً، عابداً على تشيّعه، قليل الحديث”(4).
3- وقال العلامة الأميني أيضاً: “كان شريفاً في قومه”، ووثّقه ابن سعد وابن معين والعجلي وابن عمار، وذكره ابن حبان في الثقات(5).
* يا كميل…
لقد شملت عناية أئمة أهل البيت عليهم السلام بشيعتهم في الكثير من وصاياهم النورانيّة، ولذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام قد اختار صاحبه كميلاً ليكون بحقّ مجمعاً لجملة من الوصايا الشريفة، وسنشير إلى مجموعة منها:
1- قال أمير المؤمنين عليه السلام: “يا كميل، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدّبه الله عزّ وجلّ وهو أدّبني وأنا أؤدّب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين. يا كميل، ما من علم إلّا وأنا أفتحه، وما من شيء إلّا والقائم يختمه. يا كميل، ذريّة بعضها من بعضها والله سميع عليم. يا كميل، لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا. يا كميل ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة”(6).
2- في الطبري، بإسناده المتّصل إلى محمّد بن إسحاق، قال: قال عليه السلام: “يا كميل، لا رخصة في فَرض ولا شدّة في نافلة. يا كميل، إنّ الله عزّ وجلّ لا يسألك إلّا عمّا فرض، وإنّما قدّمنا عمل النوافل بين أيدينا للأهوال العظام والطامّة يوم القيامة”(7).
3- قال عليه السلام له: “يا كميل، مُرْ أهلك أن يروحوا [السير بعد الظهر] في كسب المكارم، ويدلجوا [السير في أول الليل] في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودَع قلباً سروراً إلّا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتّى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل”.
4- لشدّة اهتمامه بكميل أوصاه وهو على فراش الموت: “يا كميل، لا تجالس المنافقين ولا تصاحب الظالمين، لكي لا يشملك غضب الله”(8).
* احفظ عني ما أقول
أيّ قلب كان ينطوي عليه كميل بن زياد حتى يتشرّف بوسام المستودع لأسرار أمير المؤمنين عليه السلام؟ وقد دلّ على ذلك مجموعة وقائع تاريخية تبيّن لنا تخصيص الأمير عليه السلام لـ”كميل بن زياد” بمجموعة من الأسرار، فهو من العلماء الذين قال عنهم علي عليه السلام: إن ها هنا (وأشار إلى صدره الشريف) لعلماً جماً لو أصبتُ له حملة. يقول كميل بن زياد أخذ بيدي أمير المؤمنين عليه السلام فأخرجني إلى الجبّان: فلمّا أصحر، تنفّس الصعداء ثم قال: يا كميل، إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لك، الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق…(9).
* دعاء كميل
زخر هذا الدعاء بالمعاني العرفانيّة والأنوار الروحانيّة، التي لم يطّلع عليها ولم تُشرق إلّا في قلب من وفّقه الله ليعيش عالم الغيب وهو في عالم الشهادة. وهنا يقول كميل: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان(10). وهو المعروف بدعاء الخضر. وهذه الأدعية تشتمل على المعاني العميقة، والتي يعجز عن الإتيان بها غير المعصوم، ولذا فإسنادها في بطنها، ومن لم يغنه المضمون لإثبات الصدور، فلا ينفعه وثاقة الثقات.
* كلمة حقّ
لقد نقل التاريخ مواقف جريئة ممزوجة بالعزّة والكرامة لكميل بن زياد، حينما واجه طاغيتين، بثبات وجرأة وفي موقفين منفصلين، هما: معاوية والحجاج.
أما الموقف الأول، فقد حدث بعدما أبعده الخليفة الثالث مع مجموعة من أصحابه، كمالك وصعصعة وجندب وغيرهم عن الكوفة، فخرجوا، ولمّا صاروا إلى كنيسة مريم، أرسل إليهم معاوية، فجاؤوا ودخلوا عليه، فقال لهم معاوية: يا هؤلاء اتقوا الله! ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات، ثم سكت، فبادره كميل -وكان أحدثهم سنّاً- قائلاً: ﴿فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه﴾، فنحن أولئك الذين هداهم الله، فقال معاوية: كلا يا كميل… فأجابه: يا معاوية، لولا أنّ عثمان وفّق منك بمثل هذا الكلام وهذه الخديعة، لما اتّخذك لنا سجناً. ثم أكمل المناظرة مالك الأشتر، وسكت كميل(11).
* كميل بن زياد شهيداً
والموقف الثاني كان عندما وقف كميل في وجه الحجاج، وقد أدّى ذلك إلى شهادته المباركة؛ إذ بعد أن وُلّي الحجاج طلب كميل بن زياد أن يأتيه، فتوارى عن الأنظار، وعلى إثر ذلك حُرم قومه عطاءهم، فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير قد نفدَ عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطيّاتهم، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج، فلما رآه قال له: لقد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلاً، فقال له كميل: لا تصرف عليّ أنيابك ولا تهدم علي، فوالله ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار، فاقضِ ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله وبعد القتل الحساب. ولقد خبرّني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنّك قاتلي، فقال له الحجّاج: الحجة عليك إذن، فقال كميل: ذاك إن كان القضاء إليك، قال: … اضربوا عنقه، فضربت عنقه(12).
ولقد جاور كميل أمير المؤمنين في مدفنه، حيث قبره الشريف في جوار مرقد الأمير عليه السلام في الثويّة، وهي موضع قرب النجف بينها وبين الكوفة. فكميل كان ظلّاً مصاحباً له في حياته، وهكذا سيكون في جملة المبيضّة وجوههم حول المنبر النوراني الذي يعتليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام في ساحة المحشر.
(1) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص169.
(2) الغارات، إبراهيم الثقفي، ج2، ص944.
(3) معجم رجال الحديث، الخوئي، ج14، ص128.
(4) الوافي بالوفيات، الصفدي، ج24، ص278.
(5) الغدير، الأميني، ج9، ص46.
(6) مستدرك الوسائل، النوري، ج17، ص267 و268.
(7) بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص273.
(8) مستدرك سفينة البحار، النمازي الشهرودي، ج90، ص190.
(9) (م.ن)، ص110.
(10) مصباح المتهجد، الطوسي، ص844.
(11) الأعلام من الصحابة والتابعين، حسين الشاكري، ج3، ص116.
(12) البحار، (م.س)، ج42، ص148.