Search
Close this search box.

أسميته محمّداً

أسميته محمّداً

مضت سبع ليال على وضعه، فأولم عبد المطلب – على عادة العرب- وليمةً عظيمة، نحر خلالها الإبل، وذبح الأغنام، ودعا إلى المأدبة أهله والسراة. وكذلك كان من دأبهم أن يعلَن عن اسم الوليد في المأدبة وعلى رؤوس الأشهاد، ليطّلع الجميع بعد ذويه وأهله على تسميته.

أسميته محمّداً

ولد محمّد عند الفجر، فأمرتني مولاتي بقولها: “يا بركة، اذهبي إلى عبد المطلب وبشّريه”! وجدت سيّدي في الحرم يطوف الكعبة، فلمّا بشرته، أكرمني بمسكوكة ذهبيّة، ثمّ انطلق إلى دار مولاتي يسعى.

رفع الطفل من المهد بشوقٍ ولهفة، واحتضنه ثمّ أخذ يشمّه ويقبّله، ذارفاً عليه العبرة، وهو يقول: “حمداً لك يا ربّ الكعبة؛ فقد وهبت ابني عبد الله من يرثه. ربّ ما ألطف هذا الطفل وما أحبّه”!

ثمّ أوعز إلى مولاتي أن سمّيه قثماً.

لم يكن سبب هذا الاختيار بخافٍ علينا؛ فعبد المطلب كان يستشعر دوماً عظيم فقده لابنه قثم، الذي مات عن ستّة أعوام، فأراد بتسميته أن يحيي ذكراه.

ردّت عليه مولاتي بتودّد كي لا تثير حفيظته: “لقد أتاني آتٍ وهتف بي أن سمّيه محّمداً”.

حمل عبد المطلب الوليد على ساعده، ثمّ رنا إليه لحظات، بعطف وحنان وضمّه إلى صدره وقال: “عسى أن يبعث بقيّة عبد الله -بالاسم هذا- مقاماً محموداً”.

ها قد آن الأوان، بعد سبعة أيّام، ليُعرض الطفل على الناس ويُعلَن عن اسمه. أمر عبد المطلب بركة أن تحمل إليه الولد بعد أن انفضّ الناس من تناول الطعام، ثمّ طاف به على القوم، وعرضه عليهم، فألقوا عليه نظرات ملؤها الحبّ والوئام. قام شيخ سائلاً: “ماذا سمّيته يا عبد المطلب؟”.

– “محمّداً”.

– “كيف سمّيته محمّداً، ولم يكن له من قبل سميّاً؟!”.

همّ عبد المطلب ليفشي السرّ ويقصّ رؤيا كنّته، آمنة، لكن سرعان ما تراجع، فقد كان عليه الكتمان. ففكّر هنيهةً، ثمّ قال: “سمّيته محمّداً ليحمد الله في السماء، ويحمد خلقه في الأرض”.

انسلّ محمّدٌ ذو الثماني سنوات ونصف، بين ثنايا المتحلّقين حول عبد المطلب، فذهب حتّى جلس على البساط، فهشّ له جدّه، وفسح له موضعه الذي قد خُصّ به منذ أمد بعيد، منذ رحلت عنه أمّه، وخفض له عبد المطلب جناح الكفالة. أجل، موضعه الذي طالما كان بعض أعمامه يؤخّرونه عنه، حتّى زجرهم جدّه ذات مرّة بقوله: “دعوه يجلس حيث يشاء؛ فإنّه يؤنس مكانته، اتركوا قرّة عيني؛ فهو راحة فؤادي، ومبعث سكينتي”.

أسميته محمّداً

ثمّ مسح ظهره ورأسه في لطف وحنان، وقبّله في شوق ولهفة؛ فانهمر إلى سويداء قلبه تيّار من العشق الأبويّ، سارٍ مكتوم، وعلت كآبة سحنته بسمةُ الانشراح. أمّا محمّد، فقد ألقى بعوده الضئيل على جدّه الهرم، مسنداً إليه الظهر.

ما إن التقى عبد المطلب بحفيده، حتّى انشغل عن السراة، وأعرض صفحاً عن الحوار معهم، لينقطع إلى محمّد بالحديث:

– “أين كنت منذ الفجر يا بنيّ؟ لقد غبتَ عنّي!”

– “شغلنا البناء، أنا وعمّي حمزة، وبعض الصبية”

– “بناء…؟ أين…؟ لمن…؟”

– “في كوخ عذيب بن مهدل”

– “ذاك الأعمى المسكين؟”

– “نعم”

– “حيّاك الله، يا ولدي، أحسنتم يا بنيّ الإحسان، هلمّ فصّل لجدّك الحديث، ماذا فعلت؟”

– “بينما كنتُ مع حمزة والغلمان في لعب، وقع بصري على عذيب، يقيم جداره، فالتفتُّ إلى من معي، قائلاً: لولا نساعده؛ فعذيب لا يسعه أن يستأجر من يعينه على البناء! وافقني الرفقة، فرحنا نأخذ التراب والمدر في حجورنا، وجعلتُ -من بين أصحابي- أحمل المدر والتراب في زنبيل أخذته من عذيب”.

قبّل عبد المطلب رأس حفيده الصغير، وربّت على كتفه في لين، ثمّ قال: “أحسنت… أحسنت، لكن قل لي، ماذا تناولت في الظهيرة؟”.

– “طلبنا إلى بركة أن تأتينا غداءنا، أكلنا وعذيباً. فشكَرَنا الرجل، وأثنى علينا كثيراً”.

– “ما قال، يا ولدي؟”.

– “أطرانا وقومنا، فقال: (بورك فيكم، لقد رفعتم جداري، ثمّ أطعمتموني، لم لا، وأنتم من قوم مطاعيم، أهل الغوث، كساة، بناة؟!)، ثمّ قال: (باللات، إنّني منذ أشهر لم أذق مثل هذا الطعام قطّ)”.

انبسطت أسارير عبد المطلب سروراً، فقال: “لقد أحسنت يا ولدي قولا ًوفعلاً”. ثمّ انبرى يتمتم بخيبة: “واحسرتاه، قد طفلت شمس عمري وآذنت بالغروب، وها قد أوشكت أن تتوارى بالحجاب، يا ليتني بسطت عليك جناح حدبي ما امتدّ بك العمر؛ فأرى بأمّ عيني ما تناله من محمود المقام وجلالة الشأن والجاه”.

أسميته محمّداً

(*) مقتبس من رواية “ها هو اليتيم بعين الله”، للروائيّ محمّد رضا سرشار.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل