Search
Close this search box.

جولة في وصيّة الإمام لابنه السيد أحمد

جولة في وصيّة الإمام لابنه السيد أحمد

السيد عباس نور الدين

* أصالة المقامات العرفانية:

“ولدي العزيز، هدفت مما ذكرته لك – رغم أنّني لا شيء، بل أقل حتّى من اللاشيء – أن ألفت نظرك إلى أنّك إن لم تبلغ مقاماً فلا تنكر المقامات المعنوية والمعارف الإلهية، وكن من أولئك الذين يحبّون الصالحين والعارفين، وإن لم تكن منهم. ولا تغادر هذه الدنيا وأنت تكنّ العداء لأحباب الله تعالى”.
بعد أن حذّر الإمام من خطورة إنكار المقامات المعنوية والعرفانية، أشار إلى أنّ هذا الإنكار سيؤدّي إلى القضاء على ما جاء به الأنبياء العظام والأولياء الكرام، وإماتة ما ورد في الكتب السماوية، وخصوصاً القرآن الكريم. ممّا يدلّ على أنّ هدف الأنبياء والقرآن هو إيصال الإنسان إلى هذه المقامات، بعد بيانها والحثّ عليها.
ونظراً إلى أهمية هذه المطلب يذكر الإمام بعض النقاط الأساسية التي تصبّ في سياق التحذير من إنكار المقامات،

وذلك على الشكل التالي:

1-إنكار المقامات العرفانية يؤدّي إلى القضاء على أهداف القرآن.
يقول (رضوان الله عليه): “وبهذا الإنكار، فإنّ ما جاء به جميع الأنبياء العظام (صلوات الله عليهم)، والأولياء الكرام (سلام الله عليهم) والكتب السماوية – خصوصاً القرآن الكريم، كتاب بناء الإنسان الخالد – ستموت قبل أن تولد”.
وهذا يعني أنه لا ثمرة عمليّة ولا فائدة حقيقية من وراء القرآن الكريم مع إنكار المقامات العرفانية: (ستموت قبل أن تولد). فلا ولادة للقرآن مع هذا الإنكار.

2-ولأنّك قد تعجب من هذا الكلام، حيث لا تراه بهذا الوضوح في القرآن الكريم، يبيّن الإمام قدس سره مدى ما تعرّض له هذا الكتاب الشريف من تحريفات معنوية على مستوى التفسير. فإنّ معظم تصوّرنا لهذا الكتاب الإلهي ناشئ ممّا حملناه من آراء بعض المفسّرين الذين لم يفهموا مقصوده الحقيقي. فيقول قدس سره:
“فالقرآن الكريم – كتاب معرفة الله وطريق السلوك إليه تعالى – قد حُرّف على أيدي الأصدقاء الجهلة عن طريقه، وعُزل جانباً. فبدأوا يصدرون عنه الآراء المنحرفة، ويفسّرونه بالرأي – الأمر الذي نهى عنه جميع أئمة الإسلام (عليهم السلام) – وأقام كلّ واحدٍ من هؤلاء يتصرّف فيه بما تمليه نفسانيته”.
وللأسف الشديد، فإنّ هذا الدور المفجع قد قامت به الأصدقاء قبل الأعداء. بل نجد أنّ الإمام لا يورد ذكراً للأعداء في هذا المجال. وهكذا نجد السمة البارزة لهؤلاء الأصدقاء الجهلة الذين لم يكن لهم نصيب من المعارف الإلهية والحقائق العرفانية هي إنكار ما يقوله العرفاء وإلصاق التهم إليهم بأنّهم قد اخترعوا هذه المعاني، أو أنّهم جاؤوا بها من اليونان والفرس القدماء، وإنّ هذه الأفكار دخيلة على الإسلام.

3-ولهذا يبدأ الإمام (قدس سرّه القدوسي) بالدفاع عن أصالة هذه الأفكار التي جاء بها العرفاء العظام، قائلاً بأنّها وليدة القرآن الكريم، وأنّها لم تكن موجودة في السابق. ولولا القرآن لما نشأت، فيقول قدس سره:
“لقد نزل هذا الكتاب العظيم في عصر وفي محيط كان يمثّل أشدّ حالات الظلام. كما نزل بين قوم يعيشون في أشدّ حالات التخلّف. وقد أنزل بيد شخص وعلى قلب إلهي لشخصٍ كان يعيش في ذلك المحيط”.
وهو بيان واضح بأنّ القرآن لا يمثّل أي نوع من التكامل الفكري للمجتمعات البشرية، كما يرى جماعة من المستشرقين.
“كذلك، فإنّ القرآن الكريم اشتمل على حقائق ومعارف لم تكن معروفة آنذاك في العالم أجمع، فضلاً عن المحيط الذي نزل فيه. وإنّ من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانية العظيمة التي لم تكن معروفة لدى فلاسفة اليونان. فقد عجزت كتب أرسطو وأفلاطون – وهما أعظم فلاسفة تلك العصور – عن بلوغها. وحتّى أنّ فلاسفة الإسلام الذين ترعرعوا في مهد القرآن الكريم، وانتهلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويل الآيات التي صرّح بحياة الموجودات في العالم (مثلاً)”.
فللقرآن الكريم وجوه عديدة للإعجاز، بها تميّز عن أيّ كتاب آخر وافترق عن إنجازات البشر. وإنّ من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانية العظيمة. وتحدّثه عن حقائق لم يكن البشر ليصلوا إليها بدونه ولو طووا مسيرة ألف ألف عام من الأبحاث العلمية والدراسات الفلسفية.

يقول الله تعالى حاكياً عن نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:  ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾. وقد فسّرت هذه الآية المباركة على هذا النحو بأنّه يعلمكم ما لم تكونوا لتعرفونه.
وقد ذكر الإمام قدس سره مثالاً عن عجز الفلاسفة. بمنهجهم الاستدلالي العقلي – عن إدراك بعض الحقائق القرآنية. كحياة الموجودات: (وإنّ من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). فهذه الآية الشريفة تصرح بوجود حياة وإدراك لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية والجمادية. (وإن كان هذا الإدراك في مراتب ضعيفة جداً). وحيث أنّ هذه المعاني لا تتوافق مع المنهج الفلسفي في تفسير الوجود. فقد قام الفلاسفة الإسلاميون الذين قرأوا هذه الآيات كثيراً بتأويلها. ولم يفهموا معانيها. وحينما عجز الجميع عن إدراك هذه المعارف العرفانية، كان القرآن يصنع ويربّي رجالاً أدركوا حقائقه وعبّروا عنها بكلّ أصالة. يقول الإمام قدس سره:
“والحال أنّ عرفاء الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه من القرآن. فالمسائل العرفانية الموجودة في القرآن الكريم ليست موجودة في أيّ كتاب آخر”.
إنّه تصريح وكلام ساطع حول أصالة العرفان من سيّد العرفاء وعظيمهم الإمام الخميني (سلام الله عليه).

4-ومن هو النموذج الأرقى لهذه الصناعة القرآنية، وما هي مقاماته؟ وقبل أن تنكروا مقامات العرفاء، انظروا إل رئيس هذه القافلة وهاديها. يقول الإمام قدس سره:
“وإنّها لمعجزة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان على معرفة بمبدأ الوحي بحيث يُكشف له أسرار الوجود. وكان بدوره (صلوات الله عليه وآله) يرى الحقائق بوضوح ودون أي حجاب. وذلك بعروجه وارتقائه قمة كمال الإنسانية، وفي لوقت ذاته كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود. فمثّل بذلك أسمى مظهر لــــ(هو الأول والآخر والظاهر والباطن…)”.
إنّ العرفاء يتحدّثون عن مقام الإنسانية الشامخ الذي يكون الإنسان فيه مظهراً تاماً لأسماء الله وصفاته، وخليفة له في صفاته. كالإحاطة القيومية والعلم اللامتناهي. وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقام العظيم فصار مظهراً للأسماء الجامعة: الأول والآخر، والظاهر والباطن.
إنّ ما يدور على ألسنة العرفاء وفي كتبهم يحوم حول هذه المعاني القرآنية الشامخة. ويهيم في بحر المعارف القرآنية اللامتناهية. إنّ قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) ما زال يصعق العرفاء في كلّ عصر وجيل. وإنّ قوله سبحانه: (وعلم آدم الأسماء كلّها) ما زال يسكر أهل الله ويجذبهم في فناء الحبّ الأزلي. وأيّ شيء عند العرفاء العظام يفوق ما ورد في القرآن. وإنذك مهما بحثت وأنّى جُلت لن تجد مثل قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء). وفي القلب جذوة من هذه النار لن أبوح بها أبداً.

5- وهل إنّ هذه المقامات العظيمة مقصورة – على نحو الحصر العقلي – على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته العظام عليه السلام؟
فإنّ طائفة من الناس لم تجرؤ على إنكار هذه المقامات الثابتة لأهل البيت (عليهم صلوات الرحمن)، ولكنّهم قالوا بأنّها مقصورة عليهم دون غيرهم. وأدّت بهم هذه الأقوال إلى قطع الارتباط الذي أرارده الله تعالى ليكون بينه وبين الخلق: “من أراد الله بدأ بكم”. ولن ندخل في هذه العجالة بمناقشة هذه الأفكار بشكل تفصيلي. ولكن نشير لأهل الحق إلى أنّ الروايات التي حصرت المقام الأعظم بأهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم لم تحصره حصراً عقلياً بمعنى استحالة ورود الآخرين ووصولهم إليه. بل هو من قبيل الإخبار اليقيني عن واقع الناس وحالهم.

يقول الإمام الخميني قدس سره:

“كما سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رفع جميع الناس للوصول إلى مرتبته. وكان يتحمّل الآلام والمعاناة الكبرى لأنّهم لم يصلوا. ولعلّ قوله تعالى: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) إشارة خفية إلى هذا المعنى. ولعلّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت” يرتبط بهذا المعنى أيضاً”.
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تربية الناس همّ سوى إيصالهم إلى ما وصل إليه. وإنّ جميع الأمة التي كانت تصل إلى درجة ينزل الرحمن (عزّ وجل) آيات خاصة لتسليته: (فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) وقوله تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، تعود إلى أنّ الناس لم يتوجّهوا إلى أهدافه ولم يعرفوا الحقائق التي أراد لهم أن يدركوها – إلاّ قليلاً منهم – ونحن نسأل هنا، هل من المعقول أن يتألم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بهذا المقدار وهم غير قادرين على الوصول. لو كنّا عقلاء هل نتألّم لأنّ الطاولة أو الكرسي لم تصل إلى المقام العلمي؟! فالكرسي فاقدة لقابلية التعلّم. ومن غير الطبيعي أن نتألّم لأنّه لم تتعلّم!
فلماذا نسدّ هذا الطريق الذي جاء من أجل فتحه الأنبياء وأنزلت الرسالات. قال تعالى:
(الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيءٍ علماً).

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل