Search
Close this search box.

تفسير سورة العصر (2)

تفسير سورة العصر (2)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر).
صدق الله العليّ العظيم

ماهو معنى العصر

استكمالاً للحديث حول القَسم الذي تبتدئ به هذه السورة المباركة، نضع بين أيدي القرّاء الأعزّاء تفسير آياتها.

﴿وَالْعَصْرِ﴾

ما هو معنى العصر؟ ذكر المفسّرون تفسيراتٍ عديدة، فبعضهم قال: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ يعني والدهر، والزمان، والأيّام.

ونحن نعرف أن الأيّام والزمان والدهر مخلوقات لله مقدّسة ككلّ شيء في الكون

لأنّ الإنسان يمكن أن يستفيد من عِبَر هذا الدهر، وهذا الزمان.

فيصبح الدهرُ والعصرُ أمرين عظيمين إذا قدَّسناهما واحترمناهما، وأخذنا العبر منهما لنستفيد منها في حياتنا.

قال مفسّرون آخرون: العصر يعني عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّه كان عصراً مليئاً بالخير وإشاعة النور، وعصر بداية الرسالة الخاتمة العامّة الإلهيّة. وهذا يعني أنّ عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو عصرٌ عظيمٌ.

﴿لَفِي خُسْرٍ﴾

﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾؛ الإنسان في خسارة دائمة، فهو يخسر مع كلّ يوم يوماً من حياته

ومع كلّ يوم تطوى صفحةٌ من حياته؛ فهذا يعني أنّه يخسر عمره، الذي هو رأس ماله الوحيد كلّ لحظة

وكلّ ساعة، وكلّ يوم، وكلّ شهر، وكلّ أسبوع، وكلّ سنة!

العصر مقابل الظهر

ثمّة قولٌ آخر عن معنى العصر، وهو المقابل للظهر، يؤيّده أنّ القرآن يقول: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، فمن المناسب أن يذكر العصر مقابل الظهر؛ لأنّ الإنسان يشعر بقصر عمر النهار وبانقضائه السريع في العصر، بينما لا يشعر بهذا الشعور صباحاً؛ لأنّ العالم لا يزال نيّراً ومضيئاً، ولا يزال النهار في أوّله. ففي كلّ يوم تشرق فيه الشمس، يبدأ نهارٌ جديد، ويتناقص عمر الإنسان. ولكنّ هذا الأمر ليس ملموساً كلّ النهار إلّا العصر، حيث يدرك الإنسان أنّ النهار صار في آخره وسينتهي.

إنّ انتهاء النهار قبيل غروب الشمس هو الذي يُشعر الإنسان بالخسارة؛ لذلك يُقسم الله بالعصر:
﴿وَالْعَصْرِ﴾ للإشارة إلى هذه الخسارة، والنقص المستمرّ في العمر، ثمّ يقول: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾؛ للتأكيد على أنّ الإنسان يفقد شيئاً في كلّ لحظة، فهو في خسارة مستمرّة.

لماذا كلمة ﴿وَالْعَصْرِ﴾؟

لو كان العصر بمعنى الدهر والأيّام والزمن، فلماذا لم يُقسم القرآن بالدهر أو الأيّام، أو الزمن، وإنّما بتعبير “العصر” فقط؟ لعلّ السبب في اختيار كلمة العصر من بين سائر التعبيرات، هو هذا المفهوم الخاصّ بالعصر.

(العصر) كلمة اشتُقّت من (عصر، يعصر)، وهي تشير إلى أنّ الزمن يُعصر، وكذلك هو أمرٌ عظيم

وفي معنى آخر يشير إلى الزمان الممتلئ أحداثاً وعِبَراً، وفيه الإنسان يواجه الأحداث والمشاكل لذلك أقسم القرآن بالعصر

الذي يعصر الإنسان عصراً، ويخرج صفوته ويربّيه؛ تمهيداً للجمل الآتية.

فمهما كان المعنى، سواءٌ أكان (والعصر) يعني آخر النهار أم الأيّام، أم عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

فإنّ القسم يصحّ أن يتعلّق بكلّ هذه المسائل حسب المقدّمة التي ذكرناها.

الفطرة خيرٌ وصلاح

ثمّة معنى آخر وهو أنّ الإنسان حينما يُوْلَدُ، يُوْلَدُ على الفطرة؛ أي مفطوراً على فعل الخير، وعلى النفور من الشرّ؛ وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30).

وما تؤكّده الروايات أيضاً، أنَّ الإنسان خُلِقَ صالحاً، خُلِقَ مستعداً للكمال في كلّ جانب. ولكنّ البشر، ونتيجةً لأسباب ولظروف عدّة، قد يسلكون طرق الشرّ، ويصبحون خاسرين: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾؛ فيفقد عندها غير المتواصي بالحقّ وبالصبر، الكثير من الاستعدادات الطبيعيّة في مسيرة حياته، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، فيبقون على فطرتهم الخيّرة والطيبة.

إلّا الذين آمنوا

إذاً، الإنسان في خسارة دائمة، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾؛ الإنسان الذي تتوفّر فيه هذه الشروط الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقّ (كلٌّ يوصي الآخر بالحقّ)، والتواصي بالصبر (كلٌّ يوصي الآخر بالصبر)، ليس بخاسر.

مثلاً: الفلاح الذي يملك 10 كلغ من القمح وينثرها فوق الأرض، هل هذا يعني أنّه خسر هذه الكميّة التي رماها؟ أبداً، لأنّ كلّ حبّة من ذلك القمح سوف تتضاعف أضعافاً. هذا ليس بخسارة!

فالإنسان الذي هو في خُسر، والذي يفقد في كلّ لحظةٍ لحظةً من عمره، إذا استعمل هذه اللحظة

في سبيل الخير والعمل الصالح، هو رابح وناجٍ يوم القيامة حتماً.

مثال آخر: طالب العلم يمتلك رأس مالٍ كبير وهو علمه؛ فإذا استخدمه في سبيل الخلود وراحة البشر، والخير العامّ، يعني هذا أنّه لم يخسر أيّ لحظة أو ساعة أو شهر من حياته

فهو باقٍ ما دام العمل باقياً ولن يكون خاسراً؛ لأنّ حقيقة الشيء وحياته بآثاره.

ما دام يعيش الآخرون في أثره، وفي مؤسّسته، وفي مدرسته، يستفيدون من خدماته، ومن نتائج عمره، إذن، هو موجود.

وهكذا، الإنسان في خسارة عموماً إلّا الشخص الذي يقدّم عمره كرأس مال، يستفيد منه حتّى بعد مماته.

المسار الصحيح
الإنسان لم يُخلق لكي يموت ويفنى، وإنّما خُلق لكي يبقى، ليس بجسده، بل بآثاره. وذلك بشروطٍ أربعة:

الأول: الإيمان

الإنسان قصير العمر؛ حيث يعيش في الغالب أقلّ من مائة عام. وهو كذلك ضعيف ذو حاجات كثيرة، وكلّ حاجة فيه تشكّل ضعفاً. كما أنّ له ميولاً وأهواءً قد تجرّه إلى ارتكاب المحرّمات. أمّا الإنسان المؤمن، المتّصل بحبلٍ متين، وهو حبل إيمانه بالله الخالق، فهو قويّ، وخالد، ومحقّ، ومنسجم مع العالم.

الثاني: العمل الصالح

هو من نتائج الإيمان أوّلاً، وضمانةٌ لبقائه ثانياً؛ أي أنّه ليس للعمل الصالح أثرٌ في الإيمان فحسب

بل تركه يؤدّي إلى خواء القلب من الإيمان أيضاً.

والعمل الصالح هو خلود الإنسان وبقاؤه، وبمثابة تعويض له عن ساعات الحياة التي يخسرها.

الثالث والرابع: التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر

لا شكّ أنّ الإنسان مهما كان بطلاً أو مجاهداً لكنه يتأثّر ببيئته، ولا يستطيع أن يعيش منعزلاً؛

لأنّه لا بدّ له أن يعيش مع الجماعة بمختلف أشكالها، فيستقيم حاله ويَستمدّ منها القوّة؛ ولهذا، التواصي بالحقّ

يعني أن نتبادل النصح بقول الحقّ لأحدنا الآخر، والتواصي بالصبر يعني أن نتبادل النصح بالصبر؛ لأنّ الطريق شاقّ.

هذا هو الشرط الأساس لبقاء الإيمان والعمل الصالح، ثم لتكريس العمل الصالح وتطبيقه في حياتنا.

طريق النجاح

خلاصة السورة المباركة:

على الإنسان الذي يريد أن لا يخسر عمره يوميّاً، ولا ينحرف عن فطرته، أن يكون مؤمناً حتّى يكون خالداً

وهو الذي يعيش مع من يتناصحون بالحقّ وبالصبر، أمّا الخاسرون فهم غير المؤمنين، وغير العاملين صالحاً

والمنفردون، الذين لا يعيشون في أجواء التواصي بالصبر والحقّ

هؤلاء هم الخاسرون الضائعون في الطريق.

(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج 10، سورة العصر، الجزء الثاني، ص 299، بتصرّف.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل