لكثير من الأدعية قاع وقمة، أما القاع فهو يجسد موضع العبد وما ركب من السيئات والذنوب، وأما القمة فهي تمثل طموحه وأمله في الله سبحانه وتعالى، ولا حد لكرمه وجوده وخزائن رحمته.
وفي «دعاء الاسحار» يذكر زين العابدين عليه السلام هذا الفاصل النسبي بين القاع والقمة، يقول عليه السلام: «إذا رأيتُ مولايا ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت»([1]).
ويقول عليه السلام في الدعاء نفسه: «عظم يا سيدي أملي، وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي، ولا تؤاخذني بأسوء عملي»([2]).
وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لكميل بن زياد رضي الله عنه يبدأ من القاع فيقول: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء… اللهم لا أجد لذنوبي غافرا، ولا لقبائحي ساترا، ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدلاً غيرك… سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي، وتجرأت يجهلي، وسكنت إلى قديم ذكرك لي ومنك علي… اللهم عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت في أغلالي، وحبسني عن نفعي بعد أملي، وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي يجنايتها ومطالي… فأسالك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي، ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سرّي…»([3]).
وهذا (القاع) هو حضيض العبودية وما يكتنفها من سيئات. تم ننتهي في أواخر الدعاء إلى قمة الطموح التي تجسّد أمل العبد ورجاءه العظيم في رحمة الله الواسعة، فيقول: «وهب لي الجد في خشيتك والدوام في الاتصال بخدمتك حتى أسرح إليك في ميادين السابقين، وأسرع إليك في البارزين، وأشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنوّ المخلصين… واجعلني من أحسن عبيدك نصيبا عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصهم زلفة لديك، فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك…»([4]).
وتجد في الدعاء الذي يرويه أبو حمزة الشمالي عن الامام زين العابدين طائفة لأسحار شهر رمضان نفس الفاصل الكبير بين (القاع) و(القمة). ففي البدء ينطلق من نقطة القاع، فيقول عليه السلام: «وما أنا يا رب وما خطري، هبني بفضلك، وتصدّق علي بعفوك، أي ربي جلّلني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك»([5]).
«فلا تحرقني بالنار، وأنت موضع أملي، ولا تُسكني الهاوية فإنك قرة عيني… ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نشرت للحساب بين يديك ذل موقفي، وارحمني صريعاً على الفراش تقلّبني أيدي أحبتي، وتفضل علي ممدوداً على المغتسل يقلّبني صالح جيرتي، وتحنن علي محمولاً قد تناول الاقرباء أطراف جنازتي، وجد علي منقولاً قد نزلت بك وحيدا في حفرتي»([6]).
ثم بعد ذلك يقول عليه السلام في مرحلة الطموح وقمة الدعاء: «اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، يا خير من شئل وأجود من أعطى… أعطني سؤلي في نفسي وأهلي وولدي، وأرغد عيشي، وأظهر مروّتي، وأصلح جميع أحوالي، واجعلني ممن أطلت عمره، وحسنت عمله، وأتممت عليه نعمتك، ورضيت عنه، وأحييته حياة طيبة… اللهم خصني بخاصة ذكرك…، واجعلني من أوفر عبادك نصيباً عندك في كل خير أنزلته أو تُنزله»([7]).
وهذه الرحلة من (القاع) إلى (القمة) هي تعبير عن حركة الانسان إلى الله، وهي رحلة (أمل)، و(رجاء)، و(طموح)، وعندما يكون أمل الانسان ورجاؤه وطموحه في الله فلا حدّ لغاية هذه الرحلة.
الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام)، الشيخ محمد مهدي الآصفي (رحمه الله)
([1]) دعاء أبي حمزة الثمالي.
([2]) المصدر السابق.
([3]) دعاء كميل.
([4]) دعاء كميل.
([5]) دعاء أبي حمزة الثمالي.
([6]) دعاء أبي حمزة الثمالي.
([7]) دعاء أبي حمزة الثمالي.