د. لبيب بيضون
العلامة الزنجانيالعلامة الزنجاني
ان بعض قاصري العقول يقفون في تفكيرهم عند حدّ المحسوس المرئي ، فهم ينكرون تلك القدرة العظيمة المبدعة التي نجد آثارها في كل شيء ، والتي يؤمن بها كل ذي عقل وفطرة.
ولو فكروا قليلا لوجدوا ان الاقتصار على ادراك المحسوس هو من صفات الحيوانات والبهائم والاطفال الصغار ، وان الانسان ان كان يرتقي عنها بمستوى ادراكه ، فلأنه يتخطى المحسوس والملموس الى غير المحسوس والملموس .
سأل احد الاطباء – وهو الدكتور سيف الدين المأمون – سيادة العلامة عبد الكريم الزنجاني قال : نحن شباب العصر الحاضر لا نؤمن الا بالمحسوس والملموس ، فهل من دليل محسوس ملموس على وجود الصانع ؟
فأجابه العلامة الزنجاني بقوله :
نعم هنالك أدلة محسوسة ملموسة على وجود الصانع ، نذكر أحدها :
من المعلوم ان هذه الارض التي نسكنها مركّبة من ثلاثة عناصر :
من جماد ونبات وحيوان
وأبو الثلاثة هو الجماد ، مثلما قال دارون : لا جديد تحت الشمس ، انما الحياة نشوء وارتقاء وتحوّل . اي ان لكل حيّ ينشأ ويرتقي ثم يتحول لما ابدأ ويعود جمادا .
ومع ان الجماد ابو الكل . ولكنه اقلهم شأنا وقيمة . لماذا ؟ لان الجماد يتمتع من مزايا الحياة بمزية واحدة، وهي في اللغة المبسطة : الحجم او الجسم او الهيكل وبلغة الفلسفة : الهيولى .
واما النبات فهو افضل من الجماد لانه يتمتع بمزايا الحياة بمزيتين هم : الحجم والنمو . مثال ذلك بذرة التين ، هذه البذرة البسيطة الصغيرة الحجم التي لا تكاد ترى بالعين المجردة ، حين نغرسها في الارض تنبت وتنمو وتكون منها شجرة كبيرة اضعاف اضعاف حجمها الاول . والدليل على افضلية النبات ان الجماد طبيعيا مكلف بخدمة كافة النباتات مهما كان شأنها الى ان تنمو وترتقي وتتحول لما بدأت . وبحكم العقل : المخدوم افضل من الخادم .
وهنالك العنصر الثالث وهو الحيوان او الكائن الحي ، فهو افضل من الجماد والنبات ، لانه يتمتع من مزايا الحياة بثلاث مزايا : وهي : الحجم والنمو والحركة . وهو بالحجم يشارك الجماد وبالنمو يشارك النبات . مثال ذلك نملة صغيرة لا تكاد ترى ، تتحرك وتسير من مكان الى مكان بحكم غريزتها . والدليل الطبيعي على ان الحيوان افضل من الجماد والنبات ، هو انه يدوس الجماد برجله ويفعل به ما يشاء ، وكذلك بالنسبة للنبات يقضم منه ما لذ له ويحرمه الحياة لكي يؤمن حياته ونموه .
والحيوان قسمان : قسم عاقل ، وقسم غير عاقل . وبعض رجال العصر يسّمون الاول حيوان ناطق وهو خطأ، لان كل حيوان ينطق ، ولكنه لا يعقل العقل التام اللازم حيث يصرّف الامور كما ينبغي . مثال ذلك اننا اذا أهلنا حصاناً وشتمناه بشتى الألفاظ فهل يتأثر ؟ واذا استرضيناه واستعطفناه بشتى الالفاظ الحلوة فهل يُسر؟ طبعا لا . ولكن في اي حال يغضب ؟ انه يغضب حينما نضريه او نقسو عليه ، ولا يرضى ويُسرّ اذا قدّمنا له شيئا من الطعام كالحشيش والعلف ! وهذا هو المحسوس و الملموس . أتريد ايها السائل ان تحرمنا من هذه المزية وتعيدنا الى الحياة الحيوانية اللاعقلية !
اما الانسان فانك اذا تكلمت امامه بجملة لا تنطبق مع مزاجه فانه يتأثر وينفعل لمدة من الزمن . واذا قدمت له موضوعا –علميا كان او مسلكيا- فانه يسر ويطرب وتمتلئ نفسه سرورا . فماذا خرج من فمنا الى اذنه حتى جعله ينفعل ويسر باللامحسوس واللاملموس؟… انت تعتقد ايها السائل وتؤمن انني اكلمك الان؟ فقال . نعم . قال الشيخ : صف لي ما يخرج من فمي الى اذنك ، هل هو ابيض ام اسود ام احمر ؟ واذا اردت لمسه فهل يمكنك لمسه ؟ قال لا . قال : فكيف آمنت به ولم تلمسه ولم تره؟ فبهذه المزية جُعل الانسان خليفة الله في ارضه . وملك الكون المطلق الصلاحية .. اما الجماد فيفعل به ما يشاء ويغير كافة معالمه حسبما يريد . واما النبات فيفعل به ما يشاء وهو مباح له . واما الحيوان فمنه ما يقتله بلا ذنب كالبعوض والهوام ، ومنه ما يأخذ صوفه ووبره وجلده ليصنع منه ما يريد ، ومنه ما يربيه ويأخذ لبنه… فهو (اي الانسان) الحاكم المطلق الذي لا يُسال عما يفعل . وما حصل على هذه المكانة الا بالشيء اللامحسوس واللاملموس .
وكأني بك تريد ان تقول : ان هنالك من يقول بنظرية دهرية ، وهي ان القدرة التي اوجدت هذا الكون المنظم تنظيما دقيقا لا يطرأ عليه اي خلل ما ، هي قدرة غير عاقلة . فأقول لك : انك اذا اردت ان تصنع قاربا في البحر واتيت برجل غير عاقل وكلفته بذلك فكيف يضبط المقاييس التي يركب منها هذا القارب ؟ او انك اذا اردت ان تصنع بابا من خشب فهل يمكن لغير العاقل ان يصنع هذا الباب ؟ طبعا لا ، لان تنظيم الاشياء وضبط مقاييسها يحتاج الى عقل مفكر .
وهنالك فئة من الناس يقولون : ان هذه القدرة عاقلة ، لكنها زالت بجكم الواقع ، فأقول لك : انك اذا اردت ان تركب طائرة او سيارة بدون قائد ولا ضابط ، فهل تستطيع ذلك ؟ فكيف بهذه الكواكب المنتثرة في الفضاء اللانهائي ، كالشمس والقمر وكافة المجموعة الشمسية التي ندور في فلكها ، كيف يمكن لها ان تدوم على هذا النظام بدون مدبر ولا قائد ؟
فحار الطبيب ولم يدرِ جواباً !
المصدر: الاعجاز العلمي في القرآن الكريم ص 15
تأليف د. لبيب بيضون