آية الله الشيخ جعفر السبحاني
الاجتهاد: كان السيد البروجردي متضلّعاً في رجال الفريقين يعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وتلاميذهم ومشايخهم، وقد لمس النقائص الفنية في الجوامع الرجالية للشيعة الإمامية مع ما لها من الأهمية البالغة.
تزامنت حياة الأُمّة الإسلامية بعلماء وعباقرة كانوا كالنجوم اللامعة في سماء العلم والعمل، وقد استضاءت بهم الأُمّة الإسلامية في مسيرها التكاملي، فانتعشت بهم حياة العلم والدين فصاروا بحق مصاديق للحديث المأثور عن سيّد الرسل ـ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ حيث قال: «يحمل هذا الدين في كلّ قرن، عدول يَنفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكيرُ خبث الحديد».(1)
ومع الاعتراف بفضل الجميع إلاّ أنّ مواقفهم كانت مختلفة. فمنهم من سار على المنهج السائد في حياته في مجال العلم، فخدم الإسلام برأيه وفكره، وقلمه وبنانه .
ومنهم من أحاط إحاطة تامة بالمنهج السائد ولم يكتف بذلك، بل طفق يبتكر أُسساً تلبّي حاجات العصر، وهم في كلّ عصر ومصر نزر قليل.
ولو أردنا استعراض أسماء بعضهم نذكر على سبيل المثال: شيخنا المفيد في إبداعاته الكلامية ومناظراته العلمية، والسيد المرتضى ـ مضافاً إلى أدبه الجم ـ في انتاجاته الأُصولية، وتلميذهما شيخ الطائفة الطوسي في الحديث والفقه المقارن والتفسير، إلى غير هؤلاء من العباقرة الذين خاضوا عُباب بحار العلوم فأثاروا أمواجاً هائلة، وحالوا دون خمول العلم وركوده، فخرجوا بدرر وجواهر ثمينة أهدوها بكلّ تواضع إلى الأُمة الإسلامية.
وهكذا كانت سيرة فقيدنا الراحل السيد البُروجردي (1292ـ1380هـ ق) في حياته التي ناهزت قرابة تسعين عاماً، فلو غضضنا النظر عن مقتبل عمره وايام دراسته على مشايخه وأساتذته حتى استقلاله بالتدريس، نرى أنّ حياته العلمية حفلت بابتكارات قيّمة، سواء قبل تسنُّمه المرجعية والزعامة الدينية أم بعدها، وها نحن نذكر الخطوط العريضة لتراثه الفكري.
ابتكاراته وخدماته العلمية
إنّه قدَّس سرَّه تمتع بمواهب خارقة، فقد جمع بين الحفظ والفهم، والتصرف في الأفكار والآراء، والأخيرة منها عزيزة الوجود بين أوساط العلماء، فالسيد الراحل بفضل هذه الموهبة ـ أي موهبة التصرف في الأفكار والآراء ـ، جاء بإبداعات تركت بصمات واضحة على العلوم الإسلامية لا سيمافي الرجال والفقه والحديث.
أ: ابتكاراته الرجالية
كان السيد البروجردي متضلّعاً في رجال الفريقين يعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وتلاميذهم ومشايخهم، وقد لمس النقائص الفنية في الجوامع الرجالية للشيعة الإمامية مع ما لها من الأهمية البالغة، وإليك الإشارة إليها:
1. انّ الخطة التي رسمها القدماء وتبعها المتأخّرون في التوثيق والجرح لا تخرج عن إطار التقليد لأئمّة الرجال، وليس طريقاً مباشراً للمستنبط بُغية التعرف على أحوال الراوي بأن يلمس بفهمه وذكائه ويقف عن كثب على كلّ ما يرجع إلى الراوي من حيث الطبقة والعصر أوّلاً، ومدى الضبط والإتقان ثانياً، وكمية روايته كثرة وقلة ثالثاً، ومقدار فضله وعلمه وكماله رابعاً، وهذا ممّا لا تفي به الكتب الرجالية الدارجة.
2. لا شكّ انّ التحريف والتصحيف تطرق إلى قسم من اسناد الأحاديث المروية في الكتب الأربعة وغيرها، وربما سقط الراوي من السند من دون أن يكون هناك دليل يدلّنا عليه، وليست الكتب الرجالية بصورة توقفنا على طبقات الرواة من حيث المشايخ والتلاميذ حتى يقف الباحث ببركة التعرّف على الطبقات على نقصان السند وكماله، لأنّها كتبت وفق حروف المعجم مبتدأة بالألف و منتهية بالياء، لا يُعرف أصل الراوي وطبقته في الحديث ولا أساتذته وتلامذته.
3. انّ أسماء كثير من الرواة مشتركة بين عدّة أشخاص، بين ثقة يُركن إليه، وضعيف ترد روايته، فعندما يلاحظ المستنبط الأسماء المشتركة في الاسناد لا يقدر على تعيين المراد.
ولأجل رفع هذه النقيصة التجأ العلماء إلى تأسيس فرع آخر لعلم الرجال باسم «تمييز المشتركات».
4. انّ هناك رواة جاءت أسماؤهم في اسناد الأحاديث ولا نرى أثراً لهم في الكتب الرجالية، وصار هذا سبباً لوصف كثير من الروايات بالضعف للجهل بالراوي .
5. انّ التصحيف والتقليب طرأ على الأسانيد عبر القرون، فكثيراً ما جاء محمد بن مسلم بصورة محمد بن سالم فأوجد غموضاً في الحديث، كما قلب الحسين بن خالد عن يعقوب بن شعيب، إلى يعقوب بن شعيب عن الحسين بن خالد.
6. توجد إضافات بين الأسماء فـ«أبو علي الأشعري» المعروف بابن إدريس، يروي عن علي بن الحسن الكوفي، ولكن ورد في بعض الأسانيد أبو علي الأشعري، عن (محمد بن) الحسن بن علي الكوفي، فما هو الميزان في التعرّف على زيادة (محمد بن)؟
7. ربما نرى أنّ الراوي يروي عمّن لم يدركه، ولكن في روايات أُخرى نرى أنّه يروي عنه بواسطة شخص خاص.
كلّ هذه المشاكل كان يعاني منها السيد البروجردي، فعاد إلى معالجة هذه النقائص الفنية في كتب الرجال بتأليف يعبّر عنه تارة بتجريد الأسانيد، وأُخرى بترتيب الأسانيد، وثالثة بتنقيح الأسانيد.
ويتلخّص عمله في أنّه قام بتجريد أسانيد كلّ من الكتب الأربعة وسمّاها:تجريد أسانيد الكافي، وتجريد أسانيد الفقيه، وتجريد أسانيد التهذيب، وتجريد أسانيد الاستبصار، ثمّ انصرف إلى تجريد أسانيد الأمالي والخصال وعلل الشرائع للشيخ الصدوق، وتجريد أسانيد الفهرست للطوسي، وأسانيد رجال الكشي والنجاشي وغيرها من الكتب، مراعياً فيها ترتيب الحروف، فباستيفاء الأسانيد وقياس بعضها مع بعض قام بحلّ كافة المشاكل التي كان يُعاني منها.
بالنظر إلى هذه الأسانيد المجرّدة ، يتسنّى الحصول على الفوائد التالية:
1. يعلم مشايخ الراوي وتلاميذه، ومن هو مشاركه في نقل الحديث وكان في طبقته.
2. يعرف مشايخ كلّ من هؤلاء الرواة وطرقهم إلى الإمام.
3. يعرف الفقيه وجود الواسطة الساقطة بين الراوي والمروي عنه.
4. يعرف المصحّف عن الصحيح، والمقلوب عن غيره.
لا أقول إنّ السيد البروجردي هو الوحيد الذي اختط هذا السبيل; بل سبقه المحقّق الأردبيلي المعاصر للعلاّمة المجلسي مؤلّف «جامع الرواة»، فانّه يلتقط في ترجمة الرواة، جملة من الأسانيد عن الكتب الأربعة وغيرها ويجعلها دليلاً على التعرّف على شيوخ الراوي; كما تبعه السيد محمد شفيع في كتابه: «طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال» فإنّهما بذلا جهدهما في رفع النقائص الفنية الطارئة على رجال الحديث، ولكن الذي قام به المحقّق البروجردي يعدّ من أبرز الأعمال و أعظمها في هذا الحقل.
كما تبع السيد البروجردي في هذا المشروع، الزعيم الديني السيد الخوئي قدَّس سرَّه ، فقد رفع بعض النقائص في كتابه الضخم «معجم رجال الحديث و تفسير طبقات الرواة» حيث إنّ من خصائص و مزايا هذا الكتاب انّه ذكر في ترجمة كلّ شخص أسماء من يروي عنه ومن روى هو عنهم في الكتب الأربعة ، وقد يذكر ما في غيرها، ولا سيّما رجال الكشي فقد ذكر أكثر ما فيه من الرواة والمروي عنهم، وبذلك خدم علم الرجال خدمة كبيرة (شكر اللّه مساعي الجميع).
ب. منهجه الفقهي
إنّ الوقوف على الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة وسائر أدلّتها، هو الفقه الذي كان يمارسه السيد البروجردي منذ شبابه إلى رحيله، فقد قام بتدريس كثير من أبواب الفقه طيلة حياته، كما درس سائر الأبواب بنفسه مرّة بعد أُخرى، وكان يتمتع بذاكرة حادّة بالنسبة إلى المسائل الفقهية والآراء التي دارت حولها من قبل الفريقين.
وهو حين إلقائه المحاضرات الفقهية يتّبع النهج التالي:
1. إذا كانت المسألة ذات تاريخ عريق في الفقه الإسلامي من عصر الصحابة والتابعين والأئمّة المعصومين إلى يومنا هذا، درج في بيان سيرها التاريخي وما مرّت عليه من مراحل تاريخية، ولم يكن ذلك من خصائصه في الفقه فحسب، بل كان يدخل من هذا الباب في المسائل الأُصولية أيضاً.
مثلاً كان قدَّس سرَّه يدرّس مبحث «العام والخاص» وكانت المسألة المعنونة هي: صيرورة العام مجازاً بعد التخصيص وعدمها، فخاض في لباب تاريخ المسألة حتى وصل إلى النتيجة التالية: بأنّ المسألة عنونت في أوائل القرن الرابع، ثمّ ذكر الآراء من ذلك العصر إلى يومنا هذا.
وهذه من خصائصه فكان يرى أنّ الإحاطة بالأقوال من أركان الاستنباط، ومع أنّه كان يمتلك أكثر الكتب الفقهية للفريقين مخطوطها ومطبوعها، ولكنّه كان يعتمد في نقل الآراء على كتاب «الخلاف» للطوسي و «تذكرة الفقهاء» و «منتهى المطلب» للعلاّمة الحلّي.
وكثيراً ما ينقل الآراء الفقهية لأصحابها حسب تدرّجها الزماني حتى يعلم تطور المسألة، وربما يشير إلى مباني الآراء عند ذكرها إشارة عابرة.
2. ثمّ إنّه بفضل التركيز على نقل آراء فقهاء الفريقين والإشارة إلى بعض الأدلّة، كان لمنهج فقهه صبغة الفقه المقارَن، فيذكر آراء الفقهاء و بعض أدلّتهم وربّما يصحّح وأُخرى يناقش بصدر رحب، وكثيراً ما يعتمد على كتاب «الأُم» للشافعي و «الموطّأ» لمالك، و عندما يجلس على منصة التدريس يحس الطالب أنّه فقيه متضلّع خبير بكافة الآراء الفقهية لجميع المذاهب الإسلامية، وهذا كان من أبرز سمات منهجه، ولم يكن استيعابه للصحاح و المسانيد بأقل من استيعابه للكتب الأربعة.
3. انّ السيد البروجردي كان يقيم للشهرة الفتوائية أو العملية ـ على الفرق الواضح بينهما ـ قيمة كبيرة، فإذا كانت الرواية ممّن أفتى بها القدماء من الفقهاء لم يكن يعدل عنها، بل انّه كان يتبع هذا الأُسلوب فيما لو كانت هناك فتوى مشهورة بين القدماء و إن لم تعضد بالدليل، و كان يقيم الأدلّة على حجّية الشهرة الفتوائية للقدماء بما لا مجال لبيانه.
4. انّه قدَّس سرَّه يذكر حول الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ كلمة معروفة، مضمونها كالتالي: كما أنّ للآيات القرآنية شأن نزول، فهكذا لروايات أئمّة أهل البيت أسباب ورود، ولا يعلم إلاّ بالرجوع إلى فتاوى الفقهاء المعاصرين لهم، فبالتعرف على فتاواهم تعرف إشارات الإمام في كلامه ولطائف مقاله،
كما تعرف بها الرواية الصادرة عن مصلحة الراوي من الرواية الواردة لبيان الواقع، وكان تلاميذ الأئمة على اطّلاع بكلا النوعين من الفتيا; فإذا وصل إليهم فتاوى الصادقين يعرفون ما هو الوارد لبيان الواقع، فيصفونه بأنّه أعطاه من عين صافية. و ما هو الوارد على وفق الواقع لمصالح اقتضت ذلك، فيصفونه بأنّه أعطاه من جراب النورة.
5. ومن مميّزات منهجه الفقهي في استنباط الأحكام هو انّه كان يلتزم بقراءة كلّ رواية وردت حول المسألة في ومسائل الشيعة والمستدرك و ما في الصحاح والسنن، و كان يقرأ كلّ رواية بسندها التام، ويذكر خصوصية أكثر الرواة غير المعروفين وانّه من أي طبقة من الطبقات، وكثيراً ما ينبّه على سقوط الواسطة، أو طروء تقليب، أو تصحيف على الرواية أو يشير إلى عدد رواياته قلّة وكثرة.
وفي ظل الإحاطة بالأسانيد كان يجهد في توحيد الروايات، فيُرجع الروايات المتعدّدة ظاهراً إلى أصل واحد، قائلاً: بأنّ التكثّر طرأ عليها من قبل الوسائط. وهذا كان من اختصاصاته في الفقه.
6. كان قدَّس سرَّه يجهد في أن يذكر لكلّ مسألة الدليل المهم الذي يمكن أن يستند إليه المجتهد، وينأى بنفسه عن ذكر الأدلّة الضعيفة ومناقشاتها صيانة لوقت الطالب.
هكذا كانت محاضرات سيدنا الأُستاذ الراحل ومنهجه الفقهي الذي أصبح فيما بعدُ المنهجَ الرسمي السائد على الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، وأمّا الكلام في منهجه الحديثي والخدمات التي أسداها في هذا المضمار، فنحيله إلى وقت آخر.
ج. نشاطاته الاجتماعية
إنّ الإمام الراحل السيد البروجردي كان من أرومة عريقة ضربت بجرانها عبر العصور والقرون، فهو سليل الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ،فلا عتب على اليراع إن وقف عن سرد محاسنه وفضائله، فإنّ سيدنا المترجم فذّ في كلّ نواحيها.
ونسبة الفضائل إليه كأسنان المشط لا تفاضل بينها، لأنّه واقع في نقطة المركز من الدائرة، فخطوط الفضائل إليه متساوية، ومع ذلك نشير إلى بعض ما للسيد من نشاطات ومواقف كريمة، وما كان يحمل من هموم الأُمّة و ما قدّم لها من خدمات.
أ. دعوته إلى التقريب
كان السيد الراحل من دعاة التقريب وعماده، وقد ورث فكره التقريب عن أُستاذه السيد محمد باقر الاصفهاني (المتوفّى عام 1342هـ) ، ويعلم مدى دعمه لمسألة التقريب انّه قد كان للسيد مساهمة فعالة في تأسيس دار التقريب بين المذاهب، ودعم المعنيّين بتأسيسها من دون فرق بين السنّة والشيعة،
وقد كان على صلة وثيقة بأخبار دار التقريب عن طريق مندوبه، أعني: الأمين العام لجماعة دار التقريب، الشيخ محمد تقي القمي، كلّ ذلك يدلّ على شدة اهتمامه بأمر التقريب ولمِّ شمل الأُمّة كسائر روّاده من معاصريه، نظير: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(المتوفّى1373هـ) و السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي(المتوفّى 1377هـ) وغيرهم من أقطاب التقريب.
ولم يقتصر نشاطه على متابعة اخبار دار التقريب فحسب، بل انّه قدَّس سرَّه راح يراسل شيخ الأزهر عبد المجيد سليم.
لمّا بعث إليه برسالة يستفسر فيها عن صحّته بعدما سمع من المذياع انّ صحته قد تدهورت، وقد اغتنم السيد الفرصة وبعث بجواب إليه، وإليك نصّ رسالة شيخ الأزهر:
حضرة صاحب السماحة آية اللّه الحاج آقا حسين البروجردي
سلام اللّه عليكم ورحمته
أمّا بعد: فقد بلغنا ـ عن طريق المذياع ـ أنّ صحتكم الغالية قد ألم ّبها طارئ من المرض، فأسفنا لذلك أشدّ الأسف لما نعرفه فيكم من العلم والفضل والإخلاص للحق، وإنّا لنسأل اللّه جلّت قدرته أن يعجل بشفائكم،ويلبسكم لباس العافية، حتى تتمكّنوا من العود الحميد إلى نشاطكم المعهود في خدمة الإسلام والمسلمين.
ولقد شاءت إرادة اللّه أن أكون أنا أيضاً في هذه الفترة مريضاً معتكفاً في بيتي أحمل همّين ممضين: همّ نفسي وهمّ قومي،وأطيل التفكير حالياً في حال أُمّتنا العزيزة، فيأخذني من القلق والحزن ما اللّه به عليم، فأرجو أن تسألوا اللّه لي العافية كما أسأله لكم، واللّه يتولاّنا جميعاً برحمته.
إنّ الأُمّة الإسلامية الآن، أحوج ما تكون إلى رجال صادقي العزم، راجحي الوزن، يجاهدون في اللّه حقّ جهاده، ليدرأوا عنها غوائل الفتن، ونوازل المحن، فقد تألّبت قوى الشر، وتجمّعت عناصر الفساد، وزلزل المؤمنون في كلّ قطر من أقطارهم زلزالاً شديداً، وكأن قد أتى الزمان الذي أنبأ الصادق الأمين ـ صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ـ : أنّ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وإنّما مثل أهل العلم من المؤمنين الصادقين كأطواد راسية أو حصون منيعة ألقاها اللّه في الناس أن تميد بهم الأرض من فتنة أو جهالة، أو كنجوم ثاقبة في ليل داج، ترشد السارين، وتهدي الحائرين. فادع اللّه معي أن يحفظ هؤلاء ويكثر في الأُمّة منهم، وينشر عليهم رحمته، وينزل عليهم سكينته، ويؤيد بهم الحقّ والدين، ويهزم بهم المبطلين والملحدين والمفسدين، إنّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.(2)
والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
14 من شعبان سنة 1370هـ
ولمّا وصلت رسالة شيخ الأزهر إلى السيد الراحل قام بكتاب جواب يشكر فيه عواطفه تجاهه، وقال:
حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الجامع الأزهر ـ دامت إفاضاته ـ
السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
أمّا بعد ـ فقد بلغنا كتابكم الكريم الحاوي للعواطف الإسلامية السامية، يحكى لنا أنّه لمّا بلغكم عن طريق المذياع أنّ صحّة هذا العبد قد ألمّ بها طارئ من المرض، أسفتم لذلك، ودعوتم اللّه تعالى أن يعيد له الصحة.
فأشكركم على ذلك، وأسأل اللّه تعالى أن يبدّل التعارف والتعاطف بين المسلمين، ممّا كان بينهم من التناكر والتدابر والتقاطع، إنّه على مايشاء قدير..
ويحكي كتابكم أيضاً، أنّه قد ألم ّبصحتكم الغالية طارئ من المرض، كما ألمّ بي، فاعتكفتم في البيت حاملين لهمين ممضين: همّ نفسكم، وهمّ قومكم، وأنّ إطالة التفكير في حالة الأُمّة، توجب لكم من القلق والحزن، ما اللّه به عليم.
هكذا ينبغي أن يكون رجال العلم ورجال الإسلام، مهما حاقت بالمسلمين زلازل الفتن،وأحاطت بهم نوازل المحن، فأسأل اللّه عزّسلطانه، أن يلبسكم لباس العافية، ويوفقكم لخدمة الإسلام والمسلمين،ولما يوجبه الاهتمام بأمر الأُمّة في مثل هذا الزمان، من أمثال جنابكم الذين وقفوا أنفسهم لخدمة هذه الأُمّة، ودرء عوادي المفسدين والملحدين عنها، إنّه قريب مجيب.
إنّ هنا أُموراً كنت أحب إبداءها لكم، لكن حالي لا تساعدني على ذلك.
والسلام عليكم وعلى من أحاط بكم من المؤمنين الصادقين ورحمة اللّه وبركاته.
17 من رمضان سنة 1370هـ.(3)
كان السيد البروجردي يترصّد الفرص بين حين وحين لأن يُدعم موقف التقريب ومن نماذج ذلك:
إنّ الملك سعود بن عبد العزيز زار إيران وأرسل بهدية سنية للسيد البروجردي، وقام السيد ببعث كتاب إلى سفير المملكة السعودية في طهران كاجابة لما أُهدي إليه، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى أنّ مسألة الحجّ من أهم مظاهر الوحدة، فللمسلمين أن يؤدّوا مناسك الحج وفق الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن الإمام جعفر الصادق ـ عليه السَّلام ـ ، وإليك نصّ رسالته إلى السفير:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سلام اللّه عليكم ورحمته
أمّا بعد: فقد بلغنا كتابكم مع السيد يوسف بوعلي، ومعه حقيبة كبيرة ذكرتم أنّها تحتوي على خمس عشرة نسخة من القرآن الكريم، وعلى قطع من حزام ستار الكعبة الشريفة، وعلى … وأنّ جلالة الملك أمر بإرسالها إليّ، فتحيّرتُ في الأمر، لأنّ سيرتي عدم قبول الهدايا من الملوك والعظماء،
ولكن اشتمال هذه الهدية على القرآن الكريم وستار الكعبة الشريفة; ألزمني قبولها، فأخذت نسخ القرآن الكريم والقطع من حزام ستار الكعبة الشريفة، وأرسلت الحقيبة «بما بقى فيها» إلى جنابكم هدية مني إلى شخصكم، لأكون على ذكر منكم في أوقات الصلوات والدعوات، ولمّا كان أمر الحجّ في هذه السنين بيد جلالة الملك; أرسلت حديثاً طويلاً في صفة حج رسول اللّه ـ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ ، رواها مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه ويستفاد منه أكثر أحكام الحجّ إن لم يكن كلّها، لترسله إلى جلالة الملك هدية منّي إليه، وتبلغه سلامي وتحياتي، وأسأل اللّه عزّ شأنه أن يؤلِّف بين قلوب المسلمين، ويجعلهم يداً واحدة على من سواهم، ويوجههم إلى أن يعملوا بقول اللّه تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(4) وأن يجتنبوا التدابر والتباغض واتّباع الشهوات الموجبة لافتراق الكلمة، وأن يلتزموا بقول اللّه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(5).
والسلام عليكم ورحمة اللّه(6)
ب. مواقفه السياسية
كان السيد الراحل البروجردي منذ أوان شبابه إلى أواخر حياته ملمّا بالأوضاع السياسية التي تمرّ على المسلمين في أنحاء العالم، وقد ابتلي المسلمون في أواسط القرن الماضي بفتنة اليهود وإنشائهم لدويلتهم الغاصبة في قلب الأُمّة الإسلامية وعلى مقربة من أُولى القبلتين،
وقد كانت هذه الفكرة تراود اليهود منذ عصر الامبراطورية العثمانية إلى أن أُتيحت لهم الفرصة في مختتم الحرب العالمية الثانية حيث أعانتهم القوى الكافرة بتأسيس تلك الدولة الغاصبة، فأخذوا يقتلون المسلمين رجالهم ونسائهم وأطفالهم ويشرّدونهم من أراضيهم إلى أن أُستتبّ لهم الأمر بإنشاء دويلتهم عام 1947م، وقد ضبط التاريخ جرائمهم في دير ياسين وغيره ممّا يندى لها جبين البشرية، وليست جرائمهم هذه الأيام غائبة عن أعيننا فقد أعادوا التاريخ بنفسه.
وقد قام السيد البروجردي يومذاك بإصدار بيان يندّد فيه بتلك الجرائم النكراء، واحتفلت بسماع بيانه الحوزة العلمية وشارك هو قدَّس سرَّه ذلك الاحتفال، وقرأ البيان الخطيب المصقع الشيخ محمد تقي الاشراقي (1313ـ 1368هـ) وإليك نصّ ذلك البيان:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
نحمد اللّه تعالى في السّراء والضّرّاء وعلى كلّ حال، ونشكوإليه ما لقيه إخواننا المسلمون في زماننا هذا من المشركين بباكستان ومن اليهود بفلسطين، ولقد صدق عملهم بالمسلمين ماأخبرنا اللّه تعالى به في كتابه الكريم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ اَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينََ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).(7)
ولكن العجب والأسف كلّه من صنع اليهود، فانّهم بعد ما كانوا تحت حماية الإسلام والمسلمين قريباً من أربعة عشر قرناً، محفوظين بنفوسهم وأعراضهم وأموالهم وشعائرهم الدينية، قد أصبحوا في هذا الزمان ينتقمون من المسلمين ما صنعوه إليهم في تلك المدّة المديدة من الإحسان، فجعلوا يقتلون رجالهم الصالحين بالفتك والغيلة والقتال، ويقتلون ذراريهم، ويهتكون أعراضهم، ويخرّبون معابدهم وبيوتهم ولا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمّة وأُولئك هم المعتدون.
فنسأل اللّه تعالى أن ينصر المسلمين نصراً عزيزاً، ويجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً، وأن يخذِّل هذا القوم الذين لم يراعوا حقّ المسلمين، ويضرب عليهم الذلّة والمسكنة، ويجعلهم أذلّ الأُمم، ونرجو من إخواننا المؤمنين ببلاد إيران وغيرها أن يجتمعوا في الدعاء عليهم بالخذلان، ولإخوانهم المسلمين بالنصر والغلبة.
اللّهمّ انصر جيوش المسلمين وسراياهم ومرابطيهم في مشارق الأرض ومغاربها، واخذل أعداءهم وفرِّق بين كلمتهم، والق الرعب في قلوبهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين، وصلّ على أشرف أنبيائك محمّد وآله المنتجبين.
حسين الطباطبائي
ج. مشاريعه الخيرية
كان السيد البروجردي بحقّ من مصاديق قوله سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمن وُدّاً)(8) فقد كانت له في القلوب محبة عريقة وود أصيل، وفي الوقت نفسه عظمة ومهابة، وكانت مهابته تملأ القلوب، وقد اكتسب ذلك الحب بخدماته الجليلة طيلة عمره لا سيما مشاريعه الخيرية، فقد بُنيت بأمره وتحت إشرافه مساجد في إيران وخارجها ومدارس علمية ومستوصفات، حتى أنّه قدَّس سرَّه في عام المجاعة في بروجرد بذل جلّ ما يملك للفقراء.
ومن أهمّ مشاريعه العمرانية مسجد «هامبورغ» الذي هو ملجأ لعامّة المسلمين في تلك البلاد النائية يقام فيه الجمعة والجماعة، وتحضره عامة الطوائف في مختلف الأوقات.
د. نشر الإسلام
كان السيد البروجردي على إيمان بأنّ الغرب لو اطّلع على حقيقة الإسلام لرغب إليه بشوق، فانّ الغرب وإن كان نهض ضد القيم الأخلاقية، إلاّ أنّ فيه رجالاً واعين لو وقفوا على الإسلام لاعتنقوه، وفي ظل تلك العقيدة بعث نخبة من فضلاء الحوزة إلى ألمانيا، فصار ذلك سبباً لتوثيق الصلة بين جامعة قم الإسلاميةوالمراكز العلمية فيها، كمابعث دعاة إلى سائر نقاط العالم.
هـ. احياؤه للتراث الشيعي
إنّ علماء الإمامية قاموا بخدمات جبّارة من خلال تأليف موسوعات وكتب ورسائل في مختلف العلوم، لكن ممّا يؤسف له انّ أكثر هذه الكتب رهينة محبسين: رداءة الطباعة،وعدم اطّلاع المحقّقين على هذه الكتب; فشمّر قدَّس سرَّه عن ساعد الجد وقام بنشر كثير من المخطوطات التي لم تر النور،
ويمكن أن تعدّ الكتب التالية من ثمرات جهوده على هذا الصعيد:
ـ «الخلاف» للشيخ الطوسي فقد طبع في جزءين في مجلد واحد.
ـ «قرب الإسناد» للحميري.
ـ «مفتاح الكرامة» للسيد محمد جواد العاملي: الجزء التاسع والعاشر.
ـ «جامع الرواة» للأردبيلي.
ـ«النصّ والاجتهاد» للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي.
ومن أهمّ ما قام به هو انّه أشار إلى الشيخ محمد تقي القمي الأمين العام لجماعة دار التقريب أن يقوم بنشر «المختصر النافع» للمحقّق الحّلي، فقد كان لنشر هذا الكتاب صدى عظيم في الأوساط العلمية في القاهرة، حتى نفذت نسخه الناهزة ستة آلاف خلال شهرين.(9)
و. خلقه
كان السيد الراحل البروجردي بحق إنساناً أخلاقياً، أبي النفسي، متواضعاً، خائفاً من اللّه سبحانه و كان في نهاية العام الدراسي يعظ الحاضرين في مجلس درسه ويبتدأ كلامه بتلاوة الآية المباركة: (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّه وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميد) (10) فإذاً عيناه تمتلئ بالدموع وتسيل على وجهه، وهو بعد لم ينبس ببنت شفه.
وقد بلغ من شعفه بأهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ لا سيما الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ انّ دموعه كانت تتقاطر دون انقطاع كلما ذُكر.
ز. حبه للعلم والعلماء
كان السيد البروجردي يحب العلم والعلماء من كافة الطبقات، وكان يقدّم الحوار العلمي على سائر الحوارات، ومع كبر سنه إذا دخل مجلسه كبير من العلماء يقوم له احتراماً ولو بمعونة الآخرين.
وبما انّ كاتب هذه السطور أدرك من حياة السيد قرابة خمسة عشر سنة، وتتلمذ عليه سنين عديدة، فإنّه يحتفظ بذكريات عطرة عنه يضيق بنقلها المجال.
هكذا كانت حياة سيدنا الراحل،فسلام اللّه عليه يوم ولد، ويوم مات،ويوم يبعث حيّاً.
جعفر السبحاني
قم ـ مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ
21 رمضان المبارك من شهور عام 1421هـ ق
الهوامش
* القيت هذه المحاضرة في الملتقى الدولي لتكريم الإمام البروجردي والإمام محمود شلتوت عام 1421، شوال المكرّم في قم المشرفة.
1-رجال الكشي، باب فضل الرواية والحديث، ص 10.
2-رسالة الإسلام: العدد الثالث من السنة الثالثة .وليست هذه الرسالة، الرسالة الوحيدة التي تم تبادلها بين شيخي السنّة والشيعة، بل ثمّة رسالة أُخرى كتبها الشيخ عبد المجيد سليم إلى السيد في جواب رسالة شفوية حملها إليه الأمين العام لدار التقريب، وقد نُشر الجواب على صفحات مجلة رسالة الإسلام العدد الثاني من السنة الرابعة عام 1371هـ.
3- رسالة الإسلام: العدد الثالث من السنة الثالثة.
4- آل عمران:103.
5- النساء: 94.
6- رسالة الإسلام، العدد الأوّل من السنة الثامنة.
7- المائدة:82
8- مريم:96.
9- انظر كيفية نشره ومدى تأثيره في الأوساط العلمية في مصر، رسالة الإسلام ، العدد الثالث من السنة التاسعة.
10- فاطر:15.
المصدر: كتاب: رسائل ومقالات / ج 2 لآية الله الشيخ جعفر السبحاني