الشيخ موسى خشّاب
من الطبيعيّ أن لا يثق الإنسان بعدوّه حين يكون العدوّ شاخصاً وظاهراً؛ لذلك يلجأ الأخير إلى الاختفاء بين الناس؛ يلبس لباسهم ويتكلّم بكلامهم ويختلط بهم، فنفقد عندها القدرة على تمييزه من بينهم، فنألفه ونأنس به ونتعامل معه كما نتعامل مع بقيّة الناس، وربّما يصير صديقاً مقرّباً وأخاً عزيزاً، ويصبح عندها الطريق ممهّداً للاختراق الأمنيّ بعد أن أعطيناه أحد الأمور الثمينة، ألا وهي الثقة.
يحتاج الاختراق إلى عنصرَين أساسيّين: عميل ذكيّ، ومغفّل يملك معلومة.
•العنصر الأوّل: استراتيجيّات العميل الذكيّ
العميل الذكيّ هو الذي يعرف كيف يخلق شعور الارتياح تُجاهه عند الآخرين، وكيف يكسب مودّتهم وصداقتهم، وينال ثقتهم، وهو كالشيطان يأتي لكلّ إنسان من طريق يناسبه، وقد يستهدف أشخاصاً محدّدين كما يفعل الصيّاد بالصنّارة، أو أن يرمي شباكه في وسائل التواصل ليصطاد أكبر عدد ممكن من الناس، ويختار منهم من يناسبه. ومن الطرق التي يتّبعها العملاء:
1– استراتيجيّة التمساح (الحاجة): إحدى الطرق التي يتّبعها العملاء لكسب ثقة الآخرين هي طريق مساعدة الأشخاص الذين لديهم حاجة معيّنة عبر تقديم خدمات معيّنة، كمساعدات ماليّة أو توظيف أو المساعدة على حلّ مشكلة ما. ويمكن أن نشبّه هذه الطريقة باستراتيجيّة التمساح في صيد فرائسه، فهو ينتظر فرائسه لتأتي إليه، حيث يعلم أنّها سوف تأتي إليه حتماً؛ لأنّها عطشى أو لأنّها بحاجة إلى عبور النهر. وقد يعرض العميل المساعدة على أشخاص محدّدين أو يُعلن عن تقديم المساعدة عبر وسائل التواصل وغيرها.
2- استراتيجيّة العنكبوت (الفرصة): يختلف البشر في طموحاتهم، ولكنّهم يشتركون في امتلاك طموح معيّن. ويُعدّ خلق الفرصة لتحقيق الطموح إحدى الطرق التي يعتمدها العملاء لكسب ثقة الناس، من خلال مساعدتهم على تحقيق طموحاتهم العلميّة أو التجاريّة أو العمليّة، فهو ينصب شراكه كالعنكبوت، ويهزّ خيوطه ليلمع بريقها في ضوء الشمس، فتنجذب الضحيّة إليه، وتعلق بشراكه. ولا بدّ أن تتناسب صورة العميل مع الفرصة التي يؤمّنها، فليس من المنطقيّ أن يعرض التاجر فرصة في الأبحاث العلميّة مثلاً.
3– استراتيجيّة الضباع (الاستفزاز): وتعتمد هذه الطريقة على استفزاز من يمتلك المعلومات لدفعه للبوح بها، من خلال دفع تهمة معيّنة أو للدفاع عن المقاومة وقادتها ومجاهديها. وكلّما اشتدّ الاستفزاز، ازداد البوح بالمعلومات. ويشبه هذا الموقف موقف الأسد حين تحيط به الضباع وتستفزّه، فيقرّر الأسد البقاء ويتجاوب مع استفزازاتها إلى أن تحيط به من كلّ جانب وتغدر به من الخلف، ويبقى الأسد واقفاً وهو يزأر حتّى يُصاب بالجروح. والفطنة تقتضي هنا عدم الاستجابة للاستفزاز والاستدراج.
4– استراتيجيّة الثعالب (الخداع والمسكنة): تعتمد هذه الطريقة على إثارة تعاطف الآخرين معه، فقد يدّعي صاحبها أنّه طالب هداية وباحث عن الحقيقة والدين، أو المذهب الحقّ أو طلب أداء الحقوق الشرعيّة.
وقد يدّعي أنّه مؤمن يؤدّي الواجبات الدينيّة، ويحرص على الحكم الشرعيّ، ويحتاط في أمور الدين، ويوحي بأنّه يصلّي صلاة الليل، ويؤدّي أعمال البرّ والخير. وقد يحصل على المعلومات من خلال تقديمه المساعدة لعائلة مجاهدة، أو يقيم الشعائر الحسينيّة فيستغلّ عاطفة الناس تُجاه أهل البيت عليهم السلام. وقد يتمادى ليدّعي أنّه مجاهد في سبيل الله تعالى، خاض العديد من المعارك مع الإسرائيليّين أو التكفيريّين، وله مشاركات وصولات وجولات، فيحدّث الناس عن بطولاته وتضحياته. وقد يُوحي بأنّه يعرف بعض المسؤولين والقادة والشهداء، أو يوحي بأنّه يعمل في المجال الأمنيّ. أو يدّعي أنّه عالِمٌ بالمسائل والقضايا الإسلاميّة، وأنّه يدرس الأخلاق، ويساعد الناس على حلّ مشاكلهم وتهذيب أنفسهم، ويقدّم لهم النصائح في السير والسلوك إلى الله، ويُشعرهم بالروحانيّة، ويقدّم لهم المواعظ التي تُليّن قلوبهم، وتُجري دموعهم.
– نموذج: معقل جاسوس ابن زياد
جُنّ جنون ابن زياد لإخفاقه في القبض على مسلم، وفشل شرطته في معرفة مكانه، هنالك لجأ إلى حيله الخبيثة، فاختار واحداً من مواليه، واسمه “معقل التميميّ” وأعطاه صرّةً بها ثلاثة آلاف درهم، وأمره أن يجوب الكوفة، زاعماً ومتظاهراً بأنّه واحد من شيعة الحسين عليه السلام يريد أن يأخذ مكانه بين صفوف أنصاره، ويريد أن يسهم بما معه من مال في شراء سلاح لأولئك الأنصار. وبعد طوال تطواف، وطول تعسّس، اهتدى الجاسوس إلى ضالّته المنشودة، فقد تعرّف إلى رجل صالح من أصحاب مسلم، قاده أخيراً إلى مكانه ومقرّه(1).
وما ذكرناه هو بعض الأمثلة عن الطرق التي يعبر خلالها العملاء إلى قلوب الناس، ويحصلون على ثقتهم تمهيداً للوصول إلى المعلومات.
•العنصر الثاني: مغفّل يملك معلومة
هو شخص مغفّل يمتلك معلومة أو معلومات مهمّة وحسّاسة، يحتاج إليها العدوّ لتتّضح الصورة لديه، ويتمكّن من تنفيذ مخطّطاته وتسديد ضرباته المؤذية.
وقد يبرّر المغفّل عمله بأنّ الإسلام أمرنا بأن لا نسيء الظنّ بالآخرين، وهذا تبرير خاطئ؛ لأنّ حُسن الظنّ بالآخرين لا يعني مطلقاً وبأيّ حال من الأحوال أن نعطيهم تمام الثقة، كما أنّ عدم إعطاء الثقة لشخص لا يعني أن نسيء الظنّ به. والمشكلة هنا هي في الخلط بين آثار حُسن الظنّ وبين آثار الثقة بالآخرين، هذا أوّلاً.
ثانياً: إنّ الثقة درجات، فثقتي بإسلامك لا تعني أن أسلّمك المعلومات، بل تعني أن أعترف بحرمة مالك ودمك وطهارة ما هو تحت يدك وحلّيّته. وثقتي بإيمانك لا تعني أن آمنك على الأسرار، وإن صلّيتُ خلفك وقبلتُ شهادتك. وثقتي أنّك مجاهد تعني أن أقدّم لك التواضع، لا الأسرار. وثقتي أنّك عالِم تعني أن أستفيد من معلوماتك، لا أن أعطيك معلوماتي.
•للثقة درجات
إنّ درجات الثقة تعني أن نعطي كلّ مرتبة من مراتب الثقة ما يناسبها، وأن نرتّب عليها الآثار المتعلّقة بها دون أن نتجاوزها. أمّا بالنسبة إلى ثقة الأسرار، فهي ثقة بدرجة أعلى. ونذكر بخصوصها ملاحظتين:
1- إنّ اختيار أحد الأصدقاء المقرّبين ليكون موضعاً للسرّ ومحلّاً للثقة العالية، يتمّ على أساس مجموعة من الصفات التي تحدّثت عنها كتب الروايات والأحاديث الشريفة، وكذلك بعد القيام باختبارات وتجارب عدّة، فإن نجح في الاختبار، كان من إخوان الثقة. وعلى الرغم من ذلك، ثمّة أمور لا ينبغي أن يطّلع عليها أحد، كالسرّ بين العبد وربّه.
2- إنّ الشخص الذي يتمّ اختياره موضعاً للثقة هو محلّ لسرّ الشخص الذي اختاره، ولا يحقّ له أن يعطيه أسرار الآخرين ويُطلعه عليها؛ لأنّ للناس حرمةً وكرامةً، وفضح أسرارهم يوجب هتك حرمتهم وكرامتهم. كذلك، لا يحقّ له أن يعطيه الأسرار المتعلّقة بالمقاومة؛ لأنّ أسرار المقاومة ليس موضعها المؤمنين، ولا حتّى المجاهدين، ولا العلماء الربّانيّين، بل محلّها هو المسؤولون المعنيّون والقنوات الخاصّة التي حدّدتها قيادة المقاومة فقط.
•كن حذراً
الثقة هي الباب الذي يخترق به العدوّ ساحتنا الإسلاميّة ومجتمعنا الإيمانيّ من خلال عملائه، ليضرب نقاط القوّة ويفسد إنجازات الجرحى والشهداء، ويضيّع انتصارات شعبنا ومقاومتنا. ومن سوء الحظّ والطالع أن يكون لأحدنا نصيب في مساعدة العدوّ على تسجيل أهدافه في مرمى حركتنا الإيمانيّة الجهاديّة المباركة؛ نتيجةً لقلّة الحذر، وضعف الفراسة، وسهولة الاستفزاز. فكن حذراً كي لا تثق بعدوّك!
1.أبناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كربلاء، خالد محمّد خالد، ص 82.