الشخص الذي يمتلك بصيرة، هو ذاك الإنسان العاقل الذي يَعي الواقع ويدركُه ويَعرِف الناس من حوله، أي إنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرِف، ما هو عدلٌ وما هو ظُلم، ما هو حقٌّ وما هو باطل، حسب تعبير الإمام عليّ عليه السلام: “الْخَيْرُ مِنْه مَأْمُولٌ والشَّرُّ مِنْه مَأْمُونٌ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ”([1])، لأنّه مستقيم في فِكره وعمله.
وكما قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([2]).
ومعنى الآية: منكّساً رأسه إلى الأرض، أي لا يبصر الطريق. ولا من يستقبله. ولا ينظر أمامه ولا عن يمينه ولا عن شماله، فيعثر كلّ ساعة. ويخرّ على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه انخفاضاً وارتفاعاً. فحاله نقيض حال من يمشي سويّاً، ولذلك قابله الله تعالى بقوله: ﴿أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا﴾، أي مستوياً قائماً يبصر الطريق وجميع جهاته. فيضع قدمه سالماً من العثار والخرور ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. يعني مستوي الأجزاء والجهة. وقيل: “يراد الأعمى الَّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسّف، فلا يزال ينكبّ على وجهه، وأنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي في الطريق المهتدي له”([3]).
إنّ الذي يمشي سويّاً، ببصره وبصيرته، أهدى من المنكبّ على وجهه. لا ينتفع ببصره في المشي ولا ببصيرته. لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين. وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً. أما رأيتَ لو أنّ السائق غفل عن الطريق وشرد ذهنه إلى مكانٍ آخر. لم تنفعه عيناه في ضبط السَيْر حتّى يعود إلى وعيه؟ إذاً، فإنّ الاعتماد على البصر- حتّى في الأمور البصريّة – غير كافٍ، فأنت حينما ترى قصراً أثريّاً ترى منظره الخارجيّ، أي طراز البناء وشكله وهندسته، لكنّ البصيرة تتدخّل لتنقلك إلى مَنْ بناه، ومَنْ سكنَه، لتحصل لديك حالة (الاعتبار) بالآثار.
الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ
“الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً”.
ومعنى الحديث: شبّه الإمام عليه السلام الجاهل العامل على غير بصيرة قلبيّة. ومعرفة يقينيّة بما يعلمه. بالسائر على غير الطريق المطلوب. تنفيراً بذلك التشبيه عن الجهل الموجِب لسقوط العمل عن درجة الاعتبار. وإيضاحاً للمقصود. وأشار إلى وجه التشبيه بقوله: “لا يزيده سرعة السَيْر إلاّ بعداً”. أي بعداً عن المطلوب أو عن طريقه. إذ بعده عن المطلوب بقَدر بعدِه عن طريق ذلك المطلوب.
وسرّ ذلك، أنّ الطريق الذي يوصل إلى الحقّ هو طريق واحد. تحيط به طرق الباطل الكثيرة. فمن ضعفت بصيرته سوف تزلّ قدمه. ويختار طريقاً من طرق الباطل والضلال. وسوف يبتعد شيئاً فشيئاً عن طريق الحقّ.
أمّا العامل على بصيرة وهدًى، فهو يعمل بنور بصيرته وهديها، الذي يوصله إلى طريق الحقّ والهداية، فيترقّب أحوال نفسه، فيعرف ما يضرّه وما ينفعه، ليختار الثاني ويترك الأوّل، ثمّ يبقى على هذه الحالة، حتّى ينتهي طريقه ويحصل له القرب المطلوب، الذي هو لقاء الله تعالى([4]).
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) الرضيّ، السيّد محمّد بن حسين، نهج البلاغة،خُطَب الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران – قم، 1414ه، ط1، ص305، الخطبة 193.
([2]) سورة الملك، الآية 22.
([3]) الكاشانيّ، الملّا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1423ه، ط1، ج7، ص 133.
([4]) راجع: المازندرانيّ، محمّد صالح، شرح أصول الكافي، ج2، ضبط وتصحيح السيّد علي عاشور، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 2000 م، ط1، ص 135.