Search
Close this search box.

الظاهرة النمرودية في الحياة البشرية

الظاهرة النمرودية في الحياة البشرية

الشيخ الحسين أحمد كريمو

القرآن الحكيم كتاب حياة وإحياء وأنزله الله لتهذيب الأحياء من البشر، وهو قطعاً ليس كتاب ميِّت بين السُّطور وما بين الدَّفتين، أو لنقرأه على القبور وفي الفواتح على الأموات، ولا حتى لنتلو بعض آياته تبركاً في المحافل والمجالس، ولا أحد ينكر أن ذلك كله مطلوب، ومرغوب، ومحبوب، ومندوب، لتحصيل الأجر والثواب. ولكن الغاية من القرآن هو أكبر، وأعمق، وأرقى، وأهدى من ذلك كله.

فالقرآن كلام الله المعجز الذي أنزله الله على خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل والجاهلية إلى بحبوحة العلم والنور والحضارة الإنسانية. وفي الحقيقة إن القرآن الحكيم أنزله الله ليكون حاكماً على المسيرة البشرية، لأنه القانون السَّماوي، والدستور الكوني الأرقى من كل القوانين والدَّساتير الأرضية. لأنه ينظر إلى كل الظواهر من المحلِّ الأعلى والأرقى، ولذا يؤسِّس لكل النَّظريات من الأساس والأصول، ويعالج كل الأمراض والمفاسد لا سيما الاجتماعية من الجذور لأن قائله هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وهو أعلم به من نفسه.

فالقرآن كتاب حياة أنزله الحيُّ القيُّوم ليحكم الحياة وفق رؤية السَّماء لهذا الإنسان المخلوق المكرَّم على خالقه ولذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، فدعوة الله في القرآن، ودعوة الرسول الأكرم في الواقع هي دعوة للحياة الفُضلى، والمُثلى التي أرادها الله تعالى لهذه الإنسان.

الظاهرة النمرودية

ومن الظواهر التي عالجها القرآن الحكيم في ما نسمِّيه بقصص الأنبياء والمرسلين التي حكاها وقصَّها علينا الباري تعالى ليس للتسلية والقصص بل للعبرة والفكرة منها وأن نستفيد منها في حياتنا اليومية. لا سيما تلك الظواهر الاجتماعية المؤثِّرة التي تطرَّق إليها القرآن الحكيم. ومنها قصة النَّمرود الذي تصدَّى له وواجهه أبو الأنبياء، وبطل التوحيد نبي الله وخليله إبراهيم (ع).

والعلماء الأعلام ما يؤكدونه ويحرصون على إبرازه في القصص، والتاريخ، والتفسير. هو ما فعله النَّمرود بسيدنا إبراهيم الخليل (ع) من حيث المواجهة، والمحاكمة. والحكم بالحرق بالنار بتلك الطريقة العجيبة والغريبة. حيث أنه بنا ذلك البناء، وجمع تلك الكميات الهائلة من الحطب وأشعلها ليحرق شاباً في مقتبل العمر اسمه إبراهيم لأنه كسَّر أصنامهم. وأعلن توحيده لله تعالى في دولة يعبد سكانها النَّمرود الذي ادَّعى عظيماً، وأجبر الناس على طاعته وعبادته.

وهذا كله صحيح وجميل ومفيد ولكن قلَّما تجد مَنْ يبحث عن هذه الظاهرة الاجتماعية (النَّمرودية) فيتناولها من جذورها وأصولها النفسية الشخصية. ثم دواعيها وآثارها الاجتماعية. بحيث أنها عكست حالة اجتماعية قد تتكرر في كل زمان ومكان ومجتمع. والله سبحانه عندما يطرحها بهذا الشَّكل وهذه التفاصيل يريدنا أن ندرسها بعمق، وندقِّق فيها، ونبحث عن دواعيها وأسبابها. ونتائجها المدمِّرة للمجتمع ولكل القيم فيه. بحيث أنه يصل شخص مثل النَّمرود ويتسلَّط على المجتمع ويصادر كل الآراء والمقدَّرات ويجعل الناس عبيداً له. وبعضهم يدَّعي ما ادَّعاه من الربوبية والجرأة على مقام الألوهية أيضاً. ولكن البعض الآخر يجبن ويتراجع خطوة عن ذلك. ولكن يُمارسه في الواقع والحياة الاجتماعية. فهو نمرود بكل معنى الكلمة. وهكذا يمكن أن تتكرر الظاهرة على مستوى العوائل والأسر، والقبائل والعشائر، والحكومات والدول. فيكون رئيسها وكبيرها وحاكمها نمروداً على الناس.

فالنمرودية ظاهرة اجتماعية وحالة نفسية يعالجها القرآن الكريم في آياته المباركة من خلال قصة إبراهيم الخليل (ع) وتصدِّيه لتلك الظاهرة النَّشاز، وذلك الشخص الشَّاذ. ليُقدِّم لنا نموذجاً حضارياً في الحياة الإنسانية. فكما أن النَّمرود يمثل الصورة السَّيئة للإنسان الخارج عن الإطار العام للبشر.

فإن إبراهيم الخليل يمثل الإنسان الراقي جداً والمطلوب من كل البشر أن يكونوا مثله ويقتدوا به في حياتهم. ويبتعدوا عن النمرود ورأيه وحكومته ودولته. ويرفضوا بل ويقاوموا سطوته وصولته وتجبره وتكبره كما فعل إبراهيم الخليل (ع) تماماً. قال تعالى:

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة: 6)

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل