الحسين أحمد كريمو
هناك ظواهر اجتماعية أساسية ومهمة جداً أشار إليها القرآن الحكيم في سياق قصصه القرآنية حيث جاءت إما بالحديث عن بعض الأقوام، أو بعض الأشخاص، ليكونوا نماذج واضحة، وأمثلة كاشفة عن تلك الظاهرة الاجتماعية ذات التأثير الكبير في المجتمع، ومنها هذه الظاهرة التي طالما أشار إليها القرآن الحكيم في سوره الشريفة، وآياته المباركة، لا سيما في قصص بني إسرائيل عامة مع أنبيائهم الكرام، ورسلهم العظام، وفي البين ضرب لنا مثلاً شخصياً من شخص اسمه قارون كان من قوم موسى (ع) أي من بني إسرائيل، فقيل: أنه كان ابن خالته، والأرجح أنه كان ابن عمِّه قاهث.
والعجيب في الأمر أن القرآن الحكيم والواقع التاريخي والمعاصر يؤكد على حب بني إسرائيل جميعاً للمال، وعشقهم للذهب الذي يصل إلى حدِّ العبادة كما عبدوا العجل الذَّهبي الذي صنعه السَّامري لهم من حُليِّ نسائهم، فعبدوه من دون الله، ولكن لماذا هذا الإبراز الفاقع لقارون من بينهم جميعاً؟
الأمر يتعلَّق بأن الباري سبحانه وتعالى أراد لنا أن نتعرَّف على هذه الظاهرة الاجتماعية، ونحذر من تفاقمها، لأن كل إنسان يحبُّ الخير والمال، ولكن يبقى في دائرته الخدمية والوسيلة الاجتماعية ولا يطغى ويخرج إلى أن يتحوَّل إلى ظاهرة فاقعة تأسر عيون الفقراء ببريقها، وقلوب المساكين بزينتها، لأن المال جُعل وسيلة لقضاء الحوائج، وتسهيل المعاملات بين الناس، لا أن يجتمع ويتكاثر حتى يتعاظم ويتحوِّل باحتكاره إلى مطلوب لذاته، ومن ثم إلى صنم يُعبد من دون الله، وصاحبه يتحول من إنسان بسيط وطيِّب إلى قارون مال شرس فيجمع المال ويمنعه عن الآخرين، ولا يدفع أبسط الحقوق المتعلقة به، فيُنظر إليه على أنه قدوة في المجتمع، والصحيح أن النبي هو القدوة، والأسوة وليس صاحب المال، والبنك المتنقِّل.
ولا أحد يستطيع أن ينكر ما للمال من تأثير على النفوس، ولذا قدَّم رب العالمين قارون مثالاً عن تلك الشريحة التي تكنز المال، وتتكبر، وتتجبر على خلق الله، فقال عنه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: 76)، فهذا الرَّجل من قوم كليم الله ورسوله موسى بن عمران، وكان من المقرَّبين إليه وربما استغلَّ هذا القرب والقرابة من نبي الله ليتوصل إلى مبتغاه في جمع المال كيفما اتفق معه دون أن يعرف من حلال أو حرام، بل ليتزيَّن ويتطاول على الناس به، قال تعالى عنه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)، أي أنه خرج منهم في حالتهم الاجتماعية متطاولاً عليهم ومتكبراً بماله، وثيابه، وزينته، التي أسَر ببريقها قلوب وعقول الفقراء والمساكين، ولذا: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، (القصص: 79)
فهؤلاء يُريدون ويرغبون ويطلبون ما في الحياة الدنيا لأنها مبلغ علمهم وفهمهم ولذا يرون المال هو كل شيء في الحياة، وأما أولئك المؤمنون الصالحون فإن نظرتهم تختلف ورأيهم بما يرونه من قارون وماله وطغيانه وكنوزه يختلف أيضاً، فهم يرون الدنيا متاع زائل والآخرة هي دار الحيوان، أي الحياة الخالدة والدائمة التي لا موت، ولا مصائب، ولا كوارث فيها، فهم خَبِروا حقيقة الحياة الدنيا المادية، وقَدَرُوها قَدْرَها وعرفوا أنها دار ممر لا دار مقر، ولذا قالوا لأولئك المبهورين بقارون وزينته وأمواله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص: 80)
فالعالم يبحث عمَّا وراء الظواهر ويغوص فيها ويبحث عن اللُّب ولا يستهويه أو يبهره القشر الظاهر منها، ويطلب ويرغب بالثواب الباقي والعمل الصالح الذي يؤهله ليكون في جوار الحق تعالى في جنته، وهي المقام الذي يحتاج إلى علم، وعمل، وصبر على ذلك كله.
وفي الحقيقة هذه الظاهرة طالما راعت ولفتت انتباهي إليها في سورة القصص المباركة لما لها تأثير اجتماعي كبير في حياتنا المعاصرة فالآن صار لهؤلاء القوارين نظام خاص من حيث التعامل العالمي فصار لهم عالمهم وما يتنافسون به على جمع الأموال وزيادة الأصفار أمام الواحد وما هي في الحقيقة إلا أصفاراً بلا فائدة ولا معنى إذا تخلَّت عن الواحد الأحد، ولذا يجب أن نحذر من هذه الظاهرة القارونية في مجتمعاتنا الإسلامية لأنها مجتمعات قامت على ركيزة التوحيد والوحدانية المتينة.