وظيفة القاضي هي من أسمى الوظائف وأخطرها، وعليها المعوَّل في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وتمكين القانون وسيادته في المجتمع، ولا غرابة في ذلك قارئي الكريم، فإن، وفض النزاعات، والفصل بين المتخاصمين.
و رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “آفَةُ القُضـاةِ الطَّمَـعُ”.
مما رواه الإمام أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: “لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع”. التعتعة: الْقَلَقُ وَالْإِكْرَاهُ، يُقَالُ: تَعْتَعَ الرَّجُلُ إِذَا تَبَلَّدَ فِي كَلَامِهِ، وَكُلُّ مَنْ أُكْرِهَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَقْلَقَ فَقَدَ تُعْتِعَ.
في هذا الحديث الشريف يجعل رسول الله (ص) حصول الضعيف على حقوقه من غير قلق أو إكراه شرطاً لنيل الأمة وسام القداسة، ومراد النبي (ص) من قداسة الأمة أن تكون أمة نامية متقدمة يسود فيها العدل والإنصاف، ويحصل كل فرد من أفرادها على حقوقه كاملة غير منقوصة، ضعيفاً كان أم قوياً، رئيساً أم مرؤوساً، ولا يتيسَّر ذلك إلا بوجود قضاء عادل، وقضاة عادلين، ولذلك يقاس تقدم الأمم واستقرارها بوجود قوة قضائية مستقلة، تفُضُّ النزاعات، وتحكم في الخصومات، وتقضي بالحق لأهله، وتأخذ الحق من مغتصبه، وتعاقب المعتدي، وتراعي في جميع ذلك العدالة المطلقة، دون مراعاة لكبير أو صغير، ودون مداهنة لقوي أو ضعيف.
ويُعدُّ القضاء من أهم الحاجات وأكثرها ضرورة للمجتمع مَنعاً لتعدي أحد على أحد، وما ينتج عن ذلك من فوضى عارمة تقضي على وجوده، لأن الخصومة من لوازم الحياة الاجتماعية، وتنازع البقاء سُنَّة كونية، وتعارض المصالح سُنَّة كذلك، والصراع على المنافع والمصالح والثروات والمناصب سُنَّة اجتماعية لا تُنْكَر، وكي يتلافى المجتمع الفوضى التي تنتج عن ذلك يحتاج إلى واحد من أمرين: الأول: أن يلتزم جميع أفراد المجتمع القانون بحيث لا يخالفه واحد منهم، أو يكون كل واحد منهم على درجة عالية من الأخلاق بحيث لا يتعدى الحدود الأخلاقية مع أحد، وهذا غير متيسِّر من جميع الأفراد هذا الأمر الأول. الثاني: أن توجد في المجتمع قوة عادلة تردع المعتدي والظالم، وتعيد الحق لأهله، وتقتص للمظلوم حقه من ظالمه، وهذا هو الممكن والمتاح، ولذلك لا تستغرب قارئي الكريم إذا عرفت أن ما من مجتمع بشري يمكن أن يخلو من قوة قضائية رادعة، سواء كان مجتمعاً بدائياً أم مجتمعاً متطوراً، وسواء كان قبَلِياً بدوياً أم مجتمعاً حضرياً. فكل تلك المجتمعات لا تخلو من القضاء.
بما تقدَّم يتضح أن وظيفة القاضي هي من أسمى الوظائف وأخطرها، وعليها المعوَّل في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وتمكين القانون وسيادته في المجتمع، ولا غرابة في ذلك قارئي الكريم، فإن من أعظم مهمات أنبياء الله ورسله وأوليائه إقامة العدل، وفض النزاعات، والفصل بين المتخاصمين، والحكم بما أنزل الله، قال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ…”﴿25/ الحديد﴾.
وقال تعالى: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ…”﴿26/ ص﴾. وقال تعالى: “…وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”﴿42/ المائدة﴾.
إن الحكم بالعدل والقسط لا يكون إلا من قضاء نزيه، وقضاة عدول لا يُحابون ولا يداهنون ولا يرتشون، وأن يتمتعوا بكل الصفات النفسية والأخلاقية والعلمية التي تؤهِّلهم لإحقاق الحقوق، وتجنِّبهم الشطط والظلم والجور، فإن مهمتهم من أخطر المهمات، وإن موقفهم يوم الحساب ليطول ويطول، والله سائلهم يوم الدين عن الصغير والكبير من أحكامهم، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “يُؤْتَى بِالقاضِي العَدْلِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَمِنْ شِدَّةِ ما يَلْقَاهُ يَوَدُّ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ في تَمْرَةٍ”.
وإذا كان هذا حال القاضي (العدل) كما جاء في حديث النبي (ص) فما بالك قارئي الكريم بالقاضي الظالم، أو المتسرِّع، أو المرتشي، الذي يبيع ضميره وأخلاقه ودينه إرضاءً للحاكم والسياسي والنافذ، وما بالك بالقاضي الذي يدير الظهر لحقوق المجتمع والمواطن ويهتمُّ لأمر الدولة العميقة يحافظ على مصالحها ومنافعها؟! وما بالك بمجلس قضاء يعاقب قاضياً يتجرّأ على الادعاء على الفاسدين والسارقين والناهبين لأموال الشعب؟!
إذا كان شرط قداسة الأمم وتقدمها ونموها أن يحصل الضعفاء على حقوقهم غير متعتعين، فكيف سيكون حال تلك الأمة أو الدولة إذا كانت أموال الضعفاء تنهب عنوة وجهرة ثم يتآمر القضاء مع الناهبين ضد أولئك الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قُوَّة، ولا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا لاستنقاذ حقوقهم وجَني تعبهم؟!
وإذا كان حامي الحقوق هو المُفَرِّط فيها والساكت عنها بل المتآمر عليها، فماذا يتبقى للجماهير المستضعفة؟ ألا يجب أن يثور الشعب على القضاء قبل أن يثور على الحاكمين والسياسيين؟! ألا يجب أن يصلح الشعب القضاء كمقدمة لإصلاح النظام السياسي برمته؟! وأن يتُمَّ اختيار القضاة وفق معايير عالية ذكرها أبو العدل والقسط الإمام أمير المؤمنين (ع) في كتابه لمالك الأشتَر النَّخْعي لمّا وَلّاه على مِصر حيث جاء فيه: “ثُمّ اختَرْ لِلحُكمِ بينَ الناسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفسِكَ، ممَّن لا تَضيقُ بهِ الأُمورُ، ولا تُمَحِّكُهُ الخُصومُ، ولا يَتَمادى في الزَّلَّةِ، ولا يَحصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تُشرِفُ نَفسُهُ على طَمَعٍ، ولا يَكتَفي بأدنى فَهمٍ دونَ أقصاهُ، وأوقَفَهُم في الشُّبُهاتِ، وآخَذَهُم بالحُجَجِ، وأقَلَّهُم تَبَرُّماً بمُراجَعَةِ الخَصمِ، وأَصْبَرَهُم على تَكشُّفِ الأُمورِ، وأَصْرَمَهُم عِند اتِّضاحِ الحُكمِ، مِمّن لا يَزدَهيهِ إطْراءٌ، ولا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ، وأُولئكَ قَليلٌ، ثُمَّ أَكْثِر تَعاهُدَ قَضائهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْـمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ”.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي