يتساءل تشومسكي عن ما إذا كان الأوروبيون يشعرون بتأنيب الضمير تجاه تاريخ دولهم الاستعماري..
المؤلف: نعوم تشومسكي وأندريه فلتشيك
المترجم: محمد الأزرقي
الناشر: الدار العربية للعلوم – ناشرون
هذا الكتاب حوار طويل بين المفكر اليساري الأميركي نعوم تشوميسكي والمحلل السياسي والمحقق الصحفي الروسي ـ الأمريكي أندريه فلتشيك. حوار، إلى جانب إصداره مطبوعا، جرى تصويره ليكون فيلما وثائقيا، يتناول التراث الدموي لقوى الغرب الاستعماري، ودور ماكنته الإعلامية في التضليل وتوجيه الرأي العام، مرورا بالأساليب الملتوية وغير المباشرة للسيطرة على مقدرات وثروات الشعوب في أفريقيا والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، وليس انتهاء بالتدخلات العسكرية في هذه المناطق التي جلبت الموت والخراب والدمار لشعوبها.
يبدأ الحوار من التأكيد على بشاعة الاحتلال الأوروبي الذي أباد شعوبا وحضارات كانت قائمة في العالم الجديد، حيث لم ينظر المحتل الأوروبي إلى شعوب هذه المناطق باعتبارهم بشر مساوين لهم، بل حيوانات أو حشرات، تماما كما يفعل الإسرائيليون اليوم مع الفلسطينيين.
وبحسب ما يقول تشومسكي وفلتشيك فقد أعطت هذه القوى الاستعمارية لنفسها حقوقا ومصالح وامتيازات في أرجاء العالم بالقوة، فالبريطانيون والفرنسيون والأسبان والبرتغاليون والبلجيكيون والإيطاليون واليابانيون ومن بعدهم الأميركيون كل هؤلاء نظروا إلى أنفسهم باعتبارهم متميزون عن بقية شعوب الأرض، ولهم حق الوصاية عليهم، و(إنقاذهم) من الجهل والتخلف. بينما المحرك الحقيقي لكل ذلك هو استنزاف ثروات هذه الشعوب. ينتقل الحوار بعد ذلك لمناقشة محاولات إخفاء جرائم الغرب، التي يتواطأ فيها باحثون وأكاديميون وسياسيون وإعلاميون سواء كان ذلك بشكل واع ومباشر أو ببساطة بسبب اللامبالاة وعدم الاهتمام بالتوثق من المعلومات.
من جهة أخرى فقد كان واضحا في هذا الحوار انحياز تشوميسكي وفلتشيك لسياسات الاتحاد السوفييتي، وهو أمر غير مستغرب نظرا للخلفية الايديولوجية والفكرية لكل منهما. انحياز يمكن ملاحظته بوضوح في الكثير من التعليقات داخل الكتاب، وبخاصة عند الحديث عن روسيا والصين.
فالمؤلفان، بحسب ما يذكر المترجم محمد الأزرقي في مقدمته، على قناعة بأنه رغم الممارسات “غير الرشيدة” للنظام السوفييتي والمنظومة التي كانت تدور في فلكه، فإن الإعلام الغربي بوسائله الشيطانية وخططه الخبيثة هو الذي أسقطهما. وعلى سبيل المثال يدافع فلتشيك عن غزو موسكو لبراغ عام 1968، وينفي أن يكون السوفييت قد ارتكبوا مجزرة فيها، دون أن يعترض تشوميسكي على هذه الملاحظة الغريبة، بل ويقول تشوميسكي إن الإمبراطورية السوفيتية هي الحالة الأولى في التاريخ حيث كان مركز الإمبراطورية أفقر من مستعمراتها، مشيدا بدور دول أوروبا الشرقية في مساعدة حركات التحرر الوطني حول العالم.
أيضا يتوقف المؤلفان عند ما يعتبرانه نموذجا لنفاق إعلام الغرب فيشيران إلى موضوع التبت وكشمير، ويقول تشوميسكي إن قضية التبت تكاد لا تفارق الصفحات الأولى من صحف الغرب، في حين يرد ذكر محدود لقضية كشمير، وهي موضوع لا يمكن التطرق إليه في الهند، “فالبلد ملأى بالتعصب الأعمى وتخنقه الجماعات الدينية المتطرفة”، ومع ذلك تحظى الهند بتقدير الغرب ودعمه باعتبارها بلد ديمقراطي، في حين تعامل الصين على النقيض من ذلك.
أورويل واللاناس
في الفصل الأول المعنون بـ “التراث الدموي للإستعمار” يتساءل تشوميسكي حول ما إذا كان الأوروبيون يشعرون بتأنيب الضمير تجاه تاريخ دولهم الاستعماري. فيجيب فلتشيك بأنه ربما يكون هناك القليل النادر منهم ممن يشعرون بذلك، ويشرح كيف أن المسألة ليست مرتبطة بجهل الكثيرين منهم لما يدور حولهم في العالم، إذ حتى بين أصدقائه الذين يعمل بعضهم في الأمم المتحدة، والحاصلين على تعليم “فاخر”، هناك مستوى من “السذاجة والجهل” في ما يخص التاريخ. ويشرح ذلك بالقول أنه يجد نفسه في صدام مع أصدقائه الفرنسيين التقدميين حول تاريخ بلدهم الاستعماري. فهناك إعجاب منقطع النظير بين اليساريين ، بالجنرال شارل ديغول. وهم يعتقدون أن فرنسا لم تكن مستعمرا سيئا كالمستعمرين الآخرين.
يتابع فلتشيك أنه التقى يوما بشخص هولندي كان عائدا لتوه من جاكرتا، كان يردد “ما كان يجب أن نترك ذلك البلد” ويقول مستنكرا: المأساة أن الرجل مسؤول في الأمم المتحدة. أيضا فالألمان، مثلا، لا يوجد لديهم أي شعور بالندم عن جرائم استعمارهم لإفريقيا، ولا يذكرون أي شيء عن جرائم دولتهم في ناميبيا، كل ما يقولونه عن هذا المكان أنه جميل لقضاء العطلة.
أما عن إسرائيل فيسأل فلتشيك إن كانت “ستثوب إلى رشدها وتعطي المناطق المحتلة إلى الفلسطينيين في النهاية؟” فيجيبه تشومسكي بالنفي “ما دامت الولايات المتحدة تقف إلى جانبها” ويتابع: لماذا تفعل ذلك؟ إنها تحصل على ما تريد، وتستحوذ على المناطق الغنية من الضفة الغربية، وتترك البقية على صورة كانتونات معزولة متفرقة.
يلفت تشومسكي في هذا السياق إلى مفهوم”اللاناس” الذي أطلقه جورج أورويل عندما كان يتحدث عن الأنظمة الاستبدادية في المستقبل. ويشير أورويل بهذا المفهوم إلى الآخرين الذين لا يحسب لهم حساب، فالعالم، يقول تشومسكي، مقسم بين أناس من أمثالنا وأولئك اللاناس. ويضرب مثلا على هذه القسوة واللامبالاة بما حدث عندما وطأ كولمبس أرض نصف الكرة الغربي ، حيث كان يوجد ما يقارب 100 مليون شخصا، لهم حضارات وثقافات متقدمة وأنظمة تجارية ومدن عامرة، ولم يمض وقت طويل حتى اختفى 95% من سكان البلاد الأصليين. وفي مناطق ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأميركية كان هناك نحو 10 ملايين من هؤلاء السكان، غير أنه بحلول العام 1900 انحسر وجودهم ليقتصر على 200 الف فقط، بعدما تعرضوا لإبادة وحشية.
المصالح أولا
في حوارهما حول ادعاءات الإعلام الغربي في ما يخص مهنيته واستقلاليته وحرصه على الموضوعية والديمقراطية، يورد المؤلفان مجموعة من الأمثلة توضح كيف يتم تجاهل كل هذه القيم إذا ما كانت الأحداث التي تتم تغطيتها أو مناقشتها لا تخدم مصالح هذه الدول وسرديتها. بل وكيف يتواطأ المراسلون مع هذه السرديات غير مبالين بنقل الحقيقة. على سبيل المثال يذكر تشوميسكي أنه كان في إسلام أباد في الوقت الذي غزت فيه الولايات المتحدة أفغانستان، حيث كان يتواجد العديد من الصحفيين الذين يكتبون تقاريرهم عن الحرب.
ويقول: كان الصحفيون يجلسون في بارات الفنادق لتمضية الوقت. وحدث أن أصاب صاروخ أميركي مكتب تلفزيون الجزيرة في كابل ودمره، قال المسؤولون إن القصف كان عن طريق الخطأ، طبعا كان الصحفيون يضحكون ملء أفواههم، لأنهم عرفوا أن القصف كان عمدا. لكن لم يجرؤ أحد منهم أن يكتب ذلك. نشروا ما قيل لهم. لاحظت نفس الظاهرة في أميركا الوسطى والضفة الغربية في فلسطين.. لم يذهب العديد من المراسلين إلى مواقع الحوادث باستثناء بعض الشرفاء.
وبالانتقال للحديث حول الشرق الأوسط والربيع العربي تحديدا، يرى تشوميسكي أنه بقدر ما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة والغرب فإنه سيكون من غير المقبول أن تسير الأمور نحو ديمقراطية فاعلة في المنطقة، وسبب ذلك، بحسب ما يقول، واضح. فاستطلاعات الرأي، قبل انطلاق الربيع العربي وتحديدا في أواخر العام 2010، خاصة في مصر تظهر أن ما نسبته 80% من السكان اعتبروا أن الولايات المتحدة وإسرائيل تشكلان الخطر الرئيسي الذي يواجهه البلد، وهي نتيجة تشابهت مع نتائج استطلاعات أجريت في دول عربية أخرى. فإذا كانت توجد ديمقراطية فاعلة فإن الرأي العام سيكون له بعض التأثير على سياسة الدولة، وعليه فإنه من الواضح أن لندن وباريس وواشنطن سوف لن تسمح لذلك أن يحدث.
ويتابع تشوميسكي أن الولايات المتحدة وحلفاءها اتبعوا في مصر وتونس خطة لعبتهم القديمة التي لعبوها مرة تلو الأخرى، والتي تخلوا فيها عن الأنظمة الديكتاتورية المفضلة لديهم حين أصبح واضحا أنها لا تستطيع الوقوف على قدميها رغم المساندة. وبعد ذلك لا تمانع طبعا عندما يتحرك الجيش ليحل محل الحاكم، ليعود العمل وفق النظام القديم. لقد كان تشاوشيسكو في رومانيا أسوأ دكتاتور شيوعي، لكنه مع ذلك كان حبيب الغرب. كانت عبارات الود والمحبة نحوه تتردد باستمرار على لساني رونالد ريغان ومارغريت تاتشر حتى اللحظة الأخيرة. وحين أصبح واضحا أن المساندة لن تنقذه تم الانقلاب عليه وأعدم رميا بالرصاص.
أما عن إسرائيل فيسأل فلتشيك إن كانت “ستثوب إلى رشدها وتعطي المناطق المحتلة إلى الفلسطينيين في النهاية؟” فيجيبه تشومسكي بالنفي “ما دامت الولايات المتحدة تقف إلى جانبها” ويتابع: لماذا تفعل ذلك؟ إنها تحصل على ما تريد، وتستحوذ على المناطق الغنية من الضفة الغربية، وتترك البقية على صورة كانتونات معزولة متفرقة. وغزة تحت حصار قاتل، وإسرائيل ترتكب كل يوم صنفا جديدا من الجرائم.. أما الإسرائيليون فثلثي السكان يؤيدون توسيع المستوطنات القائمة، وهي جميعها غير قانونية، ولكن إذا كان بإمكانك أنت تستمر في ما تفعل وأنت مدعوم سياسيا وماليا فلماذا تتوقف؟