“إلى أبطال الانتفاضة المستمرة حتى النصر وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف” بهذا الإهداء استهل عبد الوهاب المسيري رحمه الله كتابه: “الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية: دراسة في الإدراك والكرامة”، والذي سعى فيه إلى دراسة الانتفاضة والتأريخ لها في ذات الوقت. إلى جانب، دراسة النماذج المعرفية والإدراكية الكامنة وراء كل من الانتفاضة الفلسطينية، والمحاولة الصهيونية لقمعها، وتحليل منبع هذه النماذج الإدراكية وأصلها، ومن ثم إبراز تحليلاتها وتمظهراتها على أرض الواقع.
يتساءل المسيري في كتابه عن سبب الدهشة من قيام الانتفاضة، ومن مطالبة أهل الأرض بحقهم، وسعيهم لطرد الاحتلال، فهل مثلاً توقع الاحتلال ومن ورائه العالم الغربي بأن الحقوق تضيع بالتقادم؟ وهو سؤال يطرح نفسه خلال هذه الأيام، وفي كل عملية تستهدف الاحتلال.
تمثل الظاهرة الصهيونية امتداداً للمنظومة الغربية الإمبريالية كما يؤكد المسيري، إذ لا يمكن فهم الصهيونية بعيداً عن المنظومة الغربية، ولا يعني ذلك إغفال السرديات الدينية التي يتم تقديمها مسوغا لبناء الدولة وشرعنتها.
كما أن تقديم الكيان الصهيوني نموذجا لدولة ديمقراطية في سياق غير ديمقراطي، يتناسب طردياً مع مدى الاستسلام والتنازل الذي تقدمه دول المنطقة. ولا ننسى هنا أن نشير إلى تصريح رئيس الوزراء البريطاني مؤخراً؛ عن كون إسرائيل الدولة الوحيدة الديمقراطية في المنطقة، ويشهد على ذلك كما يقول سوناك أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي يتم فيها إجراء انتخابات والتي يحصل فيها الشواذ جنسياً على حقوقهم الكاملة.!
يلاحظ المسيري أن “القرى التي لم تحقق مستوى عالياً من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال” وذلك في أيام الانتفاضة.
التكامل الفضفاض غير العضوي
كانت الانتفاضة بالنسبة للمسيري لحظة تاريخية نادرة بوصفه دارسا للظاهرة الإنسانية في العالم العربي كما تقول الدكتورة هبة رؤف عزت، فقد رأى في الانتفاضة النموذج المعرفي الذي يبلوره وقد تحول إلى حدث يومي، وقد أطلق المسيري على هذا النموذج “التكامل الفضفاض غير العضوي”، وتكمن فكرة هذا النموذج في عدم الاستلاب للمنظومة الغربية الحديثة، والانطلاق نحو تحقيق النصر استناداً على جذور المجتمع وقواعده.
ويلاحظ المسيري من هذا المنطلق؛ أن “القرى التي لم تحقق مستوى عالياً من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال” وذلك في أيام الانتفاضة. وهو ما يتكرر حالياً؛ إذ إنه لم يكن ليُتصور بروز شباب المقاومة في غزة بهذه الشجاعة والقوة في ظل الارتهان لمخرجات المنظومة الغربية الحديثة، أخذاً في الاعتبار أن البنية التحتية التقليدية للمجتمع تضمن مقدرة أعلى على الاستمرار بسبب عدم التبعية للنموذج الغربي.
ويحلل المسيري فعل المقاومة من خلال نموذجه المعرفي فيؤكد؛ أن آليات القيادة المتبعة في النضال الفلسطيني تستند على مجموعة من المؤسسات الوسيطة، ولا تتسم بأي نوع من أنواع المركزية في الإدارة واتخاذ القرار. وهو ما يسمح بعدم توقف النضال في حالة أسر أي قيادي. إلى جانب، بروز قيادات جديدة في ظل الاحتكاك المتبادل بين مختلف المؤسسات الوسيطة.
ينتج عن استمرار عمليات المقاومة تفاقم الانفراط في العقد الاجتماعي الصهيوني، والذي يتنامى خلال هذه المرحلة بشكل متسارع. إذ تراجعت الثقة بين أفراد المجتمع الصهيوني والمنظومة السياسية الحاكمة في الكيان
فشل النموذج المادي
تعد لحظات المقاومة لحظات اكتشاف للذات واسترداد لها، وتمثل روح المقاومة السارية في جسد الأمة وقتها؛ الباعث الحقيقي على الأمل، والمؤكد على قرب تحقيق النصر. وتثبت أفعال المقاومة المتكررة ونتائجها المبهرة، أن العدو الصهيوني غير قادر على فهم منطق وجدلية المقاومة، وأنه عاجز عن رصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي تتم ببطء وعبر سنوات طوال، بشكل معقد وتحت السطح كما يشير المسيري. وهو ما يسمح لكل أشكال المقاومة من الاستفادة من محدودية النموذج الإدراكي الذي ينطلق منه الكيان الصهيوني.
كما أن أفعال المقاومة المتكررة تبرز أن المحك لا يرتبط بجمع المعلومات، وإنما في القدرة على فهم المجتمعات ونماذجها الإدراكية والمعرفية، وأن الارتهان للمعلومات المجمعة يرتبط بالنموذج المادي الذي يحاول الصهاينة ومن ورائهم المنظومة الغربية فهم العالم من خلاله، ومن ثم السعي للتنبؤ بأفعالهم وردات أفعالهم.
هو إذاً فشلٌ في النموذج المعرفي للمنظومة الغربية، ويؤكد ذلك ردة الفعل العنيفة التي ووجهت بها عملية طوفان الأقصى من قبل المنظومة الغربية ككل. بمعنى آخر، ما يتم ضد أهل غزة ليس انتقاماً للقتلى والأسرى فحسب، إنما أيضاً انتقام لفشل النموذج.
وقد لاحظ المسيري ضعف الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي، وفشله في معرفة العديد من العمليات التي تمت وقتها، ويتكرر المشهد مجدداً في عملية طوفان الأقصى. وهو ما يعيد التساؤل عن أسباب انغراس فكرة متانة جهاز الاستخبارات الصهيوني في مخيال أفراد مجتمعاتنا؟! ويرجع سبب ذلك بكل بساطة إلى الاستئثار للعقلية الانهزامية، واستخدام هذا المعطى دافعا نفسي ضد حالة الوهن والضعف التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية.
ينتج عن استمرار عمليات المقاومة تفاقم الانفراط في العقد الاجتماعي الصهيوني، والذي يتنامى خلال هذه المرحلة بشكل متسارع. إذ تراجعت الثقة بين أفراد المجتمع الصهيوني والمنظومة السياسية الحاكمة في الكيان، ويمكن أن نفسر التدخل الغربي الصريح منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى؛ بأنها محاولة لتطمين المجتمع الصهيوني، وإعادة ثقة المجتمع بالمنظومة السياسية.
في هذا السياق، أشار المسيري في كتابه (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) إلى ما أسماه بـ “اللحظة النماذجية للمتتالية العلمانية” والتي بين فيها أن المنظومة العلمانية الغربية تُحقق نموذجها بشكل كامل في لحظات تاريخية معينة تمثل “لحظة الصفر العلمانية”.
وفي هذه اللحظات والتي يبرز فيها النموذج بكليته يتم السعي لتحقيق الأهداف دون أدنى اعتبار لأي ضابط أو محدد؛ إذ أن المنطلق في الأساس استبعاد إنسانية الطرف الآخر، والتعامل معه على أنه مادة يمكن أن تباد أو أن تنقل.
المنظومة الصهيونية تسعى بشكل متكرر لتجديد خطابها ووسائلها الإقناعية وذلك في محاولة لشرعنة كل عملية تهجير تقوم بها، وهذه الإشكالية ومحاولة الشرعنة تمثل أحد وجهي العملة الإسرائيلية كما يشير المسيري.
حرب المصطلحات
سعى المسيري إلى ضبط القاموس المصطلحي المستخدم، والتأكيد في أكثر من سياق على أن المصطلحات لا توجد في فراغ وإنما داخل أطر إدراكية تجسد نماذج معرفية، والصراع مع الكيان الصهيوني في أحد أشكاله وتمثلاته صراع على تسمية الأشياء، ووصف الظواهر بما يعكس طبيعتها ويجلي حقيقتها، وهو ما يؤكد ضرورة الانتباه والاهتمام بخطابنا المحكي، وسرديتنا المتداولة.
المنظومة الصهيونية تسعى بشكل متكرر لتجديد خطابها ووسائلها الإقناعية وذلك في محاولة لشرعنة كل عملية تهجير تقوم بها، وهذه الإشكالية ومحاولة الشرعنة تمثل أحد وجهي العملة الإسرائيلية كما يشير المسيري.
ويظهر بجلاء المحاولات الحثيثة لإخراج أهل غزة من أرضهم بالحديد والنار، والتحجج بمحاربة حركة حماس وغيرها من التبريرات يعتبر واقعياً فقط بمنطق المنظومة الغربية، يقودنا ذلك إلى التأكيد على أن كل فعل مقاوم يجابه به الكيان؛ يساهم بشكل مباشر في تقويض شرعية الوجود الصهيوني.
عرّت عملية طوفان الأقصى كل الأقنعة في العالم، المتحضر منه وغير المتحضر! وبينت كيف أن المنظومة الغربية تستميت في الدفاع عن المنتمين لها والمتسقين معها في ذات الوقت
دروسٌ للمستقبل
بين المسيري -رحمه الله- أن الانتفاضة علمتنا “كيف يذوب جليد اليأس الذي يخلق الإحساس بالعدمية، وكيف تولد البراعم في النفوس فينهض الناس ويحملون حجراً ويعلون كلمة الحق ويحولون المعرفة إلى فضيلة”.
واليوم تعلمنا عملية طوفان الأقصى الوزن النسبي الحقيقي لكل نقاش نظري، وتبين لنا بكل وضوح الحد الفاصل بين كل ما هو مهم وكل ما هو تافه، وتجلي لنا كذلك تكاتف شعوب الأمة الإسلامية من شرقها لغربها مع قضية المسلمين الأولى؛ قضية فلسطين.
في مقابل ذلك، عرّت عملية طوفان الأقصى كل الأقنعة في العالم، المتحضر منه وغير المتحضر! وبينت كيف أن المنظومة الغربية تستميت في الدفاع عن المنتمين لها والمتسقين معها في ذات الوقت، كما أوضحت عملية طوفان الأقصى مدى استفادة المنظومة الغربية من ارتهان مجتمعاتنا لمنطق الدولة القومية الحديثة.
لن يفهم الفرد الإسرائيلي والغربي ولا حكوماتهم ما حصل في عملية طوفان الأقصى وغيرها من العمليات السابقة، ولن يستوعبوا الأفكار الكامنة في أذهان المجاهدين، لأن هذه الأفكار وببساطة تنتمي لعالم الغيب، وتنطلق من مركزية الرحمن والقرآن لا من مركزية المادة والإنسان.
وتنكيل المنظومة الغربية بأهلنا في غزة لا يرجع فقط لسعيهم للانتقام للقتلى والأسرى فحسب، إنما أيضاً للانتقام من هذا المجتمع الذي أفشل بكل المقاييس النموذج الغربي ومرتكزاته ورؤيته للحياة، هي إذاً حُروبٌ تخوضها غزة نيابة عن العالم الإسلامي؛ لتمنّعها عن الانصياع والاستكانة والذوبان في هذا النموذج.
ختاماً، أملنا بالله سبحانه وتعالى معقود، والنصر قادم لا محالة، وحفظ الله أهلنا في غزة وفلسطين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ، ظاهرينَ إلى يومِ القيامةِ..).