Search
Close this search box.

أعظَمُ البلاء

عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالإِحْسَانِ إِلَيْه، ومَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْه، ومَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيه. ومَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ الإِمْلَاءِ لَه»[1].

إنَّ الدنيا دارُ الابتلاءِ والامتحان، وهذهِ هيَ فلسفةُ وجودِها، فلم يُخلَقِ الإنسانُ ليتنعَّمَ فيها فقط، بل ليَعبُرَ منها إلى الآخرةِ التي هي خيرٌ وأبقى، ولكنْ قد يظنُّ بعضُ الناسِ أنَّه إذا أقبلتِ الدنيا على أحدٍ فهو ممَّنْ رضِيَ اللهُ عنه، فأنعمَ عليه، وإذا أدبرتِ الدنيا عنْ أحدٍ فهو مِنَ الذينَ غضِبَ اللهُ عليه، فقتّرَ عليه، إلَّا أنَّ هذهِ النظرةَ خاطئةٌ؛ لأنَّها قدْ تكونُ منْ مفرداتِ الإملاء، كما ذكرَ (عليه السلام). والإملاءُ هوَ الإمهالُ وتأخيرُ المدَّة، وهو منْ أشدِّ الابتلاءات؛ إذِ اللهُ عزَّ وجلَّ يعطي عبدَه ويمدُّه ويمهلُه؛ لأنَّه لا يريدُ أن يؤاخِذَهُ بذنوبِه مباشرةً، فيجعلُ المرءَ في حالةٍ مِنَ الطمأنينةِ، فيشعرُ أنَّ ذلكَ محبّةٌ منهُ له، ولكنَّ ذلكَ في الواقعِ مضاعَفةٌ في العقوبةِ له، فالمبتلى بالإملاءِ كأنَّه لا يعلمُ حقيقةَ الأمرِ وواقعَ الحال، وأنَّه مصداقٌ لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[2].

ونماذجُ ذلكَ ثلاثٌ:

1ـ الاستدراج: حيثُ يندفعُ الإنسانُ، نتيجةَ النعمِ التي تتنزَّلُ عليهِ، إلى المعاصي، فكمْ مِنْ شخصٍ يُحسِنُ اللهُ عزَّ وجلَّ إليه، ويكتبُ له الخيرَ والنِعمَ مِنَ المالِ والولدِ والمكانة، ولكنَّ ذلكَ يأخذُ بهِ شيئاً فشيئاً إلى العذاب! عَنِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام): «الاستدراجُ مِنَ اللهِ سبحانَه لعبدِه أنْ يُسبِغَ عليهِ النِعَمَ، ويسلبَه الشكر»[3].

ولكي يأمنَ صاحبُ النعمةِ مِنَ الوقوعِ في ذلك، عليه أنْ يكونَ دائمَ الالتفاتِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فيحمدُه على ما أعطاه، فقدْ وردَ في الروايةِ أنَّه قيلَ للإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «إِنِّي سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالاً فَرَزَقَنِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً فَرَزَقَنِي وَلَداً، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَرْزُقَنِي دَاراً فَرَزَقَنِي، وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ، مَعَ الْحَمْدِ فَلَا»[4].

2ـ السَتر: فكمْ مِنْ شخصٍ يقعُ في الذنوبِ والآثامِ، ويسترُ اللهُ عليه، فيقعُ بسببِ هذا السَترِ في الغرور، ويتمادى في المعاصي، ويظنُّ أنَّ اللهَ لا يراهُ، أو لنْ يفضحَه! عنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «الحذرَ الحذرَ، أيُّها المغرور، واللهِ لقدْ سترَ حتَّى كأنَّه قدْ غَفَرَ»[5].

3ـ المدحُ والثناء: وكمْ مِنْ شخصٍ يأخُذُه الزهوُ والكِبَر، فإذا مدَحَهُ إنسانٌ، وقالَ فيه حُسناً، فُتِنَ بذلك، فسقطَ في الاختبار. ويتَّخذُ بعضُ الناسِ المدحَ وسيلةً للتأثيرِ على الآخرينَ ليكسبُوا ودَّهم، ويمرّروا لهم من خلالِ ذلكَ الأفكارَ الرديئة، أو يُقبِّحوا لهم صوراً حسنة. وقد حذَّرَنا أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) منهم، فعنه (عليه السلام): «أجهَلُ الناسِ المغترُّ بقولِ مادحٍ متملِّق، يُحسِّنُ له القبيح، ويُبغِّضُ إليه النصيح»[6].

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص489، الحكمة 116.
[2] سورة آل عمران، الآية 178.
[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول، ص246.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج‏2، ص97.
[5] الشيخ الآمديّ، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص185.
[6] الشيخ الليثيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص123.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل