الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب قدس سره
أيّها القارئ العزيز، تأمّل جيّداً في هذه الآية الشريفة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).
ألا نجد أنّ جلّ اهتمامات الناس وعلومهم تنصبّ على عالم الدنيا والحياة الماديّة، وقلّما نجد موضوعاً لم يحرزوا فيه تقدّماً مذهلاً؟! في المقابل ثمّة غفلة عن الاهتمام بمصير الإنسان بعد الموت، الذي لن يكون عابراً!
* التقدم الدنيويّ والتأخّر المعنويّ
لقد وصل العلماء في علم الزراعة وعلم النبات إلى حدّ الكمال، وفي علم الطبّ والجراحة وطريق تشخيص المرض والدواء لبدن الإنسان، أحرزوا تقدّماً هائلاً بحيث يمكنهم إجراء عمليّة جراحيّة للقلب أو استبداله.
وفي مجال اختراع لوازم المعيشة وتأمين وسائل الراحة، ابتكروا أشياء لم تكن تخطر على بال.
وقد تجاوزوا الأرض لتسخير الفضاء، وقطعوا آلاف الكيلومترات وحطّوا على سطح القمر.
ولكن للأسف! بالرغم من كلّ هذه العلوم عن ظاهر هذا العالم، فإنّهم يجهلون كلّ شيء عن باطنه وخالقه، وبعضهم لا يعتقد بفناء هذا العالم وزواله، رغم أنّ العلماء في هذا العصر وصلوا إلى هذه الحقيقة وقالوا إنّ للأرض أجلاً وعمراً تتلاشى بعده، وقالوا إنّ منظومتنا الشمسيّة هي الآن في سنّ الشيخوخة والهرم.
وأوضح من هذا كلّه فناء كلّ فرد، فلا بقاء لأحد هنا، ولكن هذا لا يؤثّر في قلوبهم حتّى يبعثهم على التفكير بحياة ما بعد الموت.
إذاً، ثمّة عالم آخر، والمشكلة أنّهم لا يفكّرون أيضاً أنّ خلق هذا العالم المليء بالحكمة إنّما هو لهدف مهمّ ونتيجة ثابتة، وهي أنّ بعد هذا العالم الفاني عالم باقٍ خالد، وما إن يتخلّص الناس من هذا العالم المزعج فإنّهم يردون ذلك العالم ويبلغون منتهى السعادة، أي أنّهم يصلون إلى الراحة التي لا تعب بعدها، واللذة التي لا حرمان بعدها، والسرور الذي لا حزن بعده.
* الهدف من الخلق
على الإنسان أن يفكّر في عظمة الكون في السماوات والأرض وما فيهما(1)، كي يدرك أنّ خلق كلّ جزء صغير من أجزاء الوجود إنّما أُوجد لحكمة.
إنّ عالم الوجود مخلوق للإنسان، والأخير مخلوق لمعرفة الله وعبادته، والمعرفة والعبوديّة بمثابة جناحَين يحلّق بهما الإنسان في العالم العلويّ للوصول إلى الحياة الطيّبة التي فيها لذائذ وبهجات لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب بشر. يقول تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 17).
وبعبارةٍ أخرى: إنّ الهدف من خلق الله الإنسان والعالَمَيْن الفاني والباقي:
أولاً: إظهار الصفات الجماليّة (أي قدرة الله اللامتناهية وفضل وجوده وكرمه)، وسيتجلّى ذلك بصورة كاملة في جزاء أهل الإيمان والخير من البشر في عالم الآخرة، وما هو في الدنيا من ذلك ليس إلّا نموذجاً.
ثانياً: ظهور الصفات الجلاليّة للحقّ تعالى أي العدل الحقيقيّ والقهاريّة الشديدة، وهو ما يتجلّى بصوره كاملة في جزاء الأشرار والكافرين من البشر.
* التفكير في الخلق أفضل العبادات
لأجل معرفة الحكمة من عالم الوجود، يجب الرجوع إلى كلمات الله والرسول وأهل البيت عليهم السلام.
كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «نبِّه بالتفكّر قَلْبَك…»(2).
وعن الإمام الرضا عليه السلام: «ليس العبادة بكثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة في التفكّر في الله»(3).
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «أفضلُ العبادة إدْمان التفكّر في الله وفي قُدْرَتِهِ»(4).
وعنه عليه السلام أيضاً: «كان أكثر عبادة أبي ذر رحمه الله التفكّر والاعتبار. تفكّر ساعة خير من عبادة سنة: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ (الرعد: 19)»(5).
لعلّ معنى هذا الحديث أنّ تفكير ساعة في صنع الله قد تكون نتيجتها معرفة لا يمكن أن يبلغها الإنسان من عبادة سنة من دون تفكّر(6). ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: «ولَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ»(7)، أي لأدركوا أنّ وراء هذا العلم عالم جزاء وثواب وعقاب، ولخافوا منه.
* طرق التفكّر
1. التفكّر في كلّ شيء
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به»(8).
يقول العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) في شرح هذا الحديث: «كأنّ التفكّر المذكور في هذا الحديث يشمل جميع أنواع التفكير السليم، كالتفكير في عظمة الله الذي يدعو الإنسان إلى طاعة الله وخشيته، وكالتفكير في فناء الدنيا ولذّاتها الذي يدفع الإنسان إلى تركها، وكالتفكير في عاقبة من مضى من الصالحين فإنّه يدفع الإنسان إلى الالتزام بنهجهم واقتفاء أثرهم، وكالتفكير في عاقبة المذنبين الخاطئين فإنّه يدفع إلى اجتناب أعمالهم، وكذلك التفكير في آفات النفس البشريّة وعيوبها فهو يدفع إلى إصلاحها. وكالتفكير في أسرار العبادات وأهدافها فإنّه يحمل على أدائها بشكل أفضل، وكالتفكير في درجات الآخرة وعليّين، الذي يُرغِّب الإنسان في العمل للحصول عليها، وكالتفكير في الأحكام والمسائل الشرعيّة الذي يدعوه إلى العمل به، وكذلك التفكير في الأخلاق الحميدة الذي يدعوه إلى تحصيلها والتحلّي بها»(9).
ويقول الحسن الصيقل: سألت أبا عبد الله عليه السلام عمّا يروي الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال عليه السلام: «يمرّ بالخربة أو بالدار يقول: أين ساكنوكِ؟ أين بانوكِ؟ ما لك لا تتكلّمين؟»(10).
وممّا تقدّم، يعُلم فضل التفكّر ودرجاته وأنواعه، إذ إنّه الطريق الوحيد لمعرفة الله.
2. التفكّر لمعرفة الله
كلّ موجود يراه الإنسان صغيراً كان أم كبيراً(11)، يجب أن يلتفت إلى كيفيّة كونه آية ودليلاً على وجود الله، وذلك بالتفكير أنّ لكلّ ظاهرة موجداً، ولكلّ متحرّك محرّكاً. وحيث إنّه يرى أنّ لكلّ موجود منافع وهدفاً، فيعلم أنّ صاحب هذا العالم ذو إرادة وعلم وقدرة لا متناهية، خصوصاً إذا كان التفكير بالموجودات ذات الإرادة والعلم والقدرة كالحيوانات أو ما فوقها وهو الإنسان.
يا ترى هل يعقل أن يكون الإنسان -وهو ظاهرة من ظواهر الكون- ذا إرادة وإحساس، ثمّ يكون خالقه فاقداً للإرادة والإحساس، في حين أنّ هذه الإرادة والإحساس من الظواهر التي خلقها خالق هذا الكون سبحانه؟
لتوضيح هذه الفكرة، نقدّم هذين المثلين:
أ. أجزاء الساعة
الساعة تشتمل على أجزاء دقيقة مختلفة الأحجام بما في ذلك العقارب ولوحة الأرقام، وكلّ جزء منها صغير أم كبير له خاصيّته، بحيث إذا اختلّ عمل الساعة يتوقّف هذا الجهاز كلّه. فهل يستطيع عاقل أن يقول إنّ صانعها لم يكن يمتلك الإرادة والشعور؟ إنّ هذا غير معقول، فكلّ عاقل يتيقّن عند رؤية الساعة أنّ صانعها حيّ مريد وقادر، وسوف لن يعتريه في هذا أدنى شكّ.
ب. أجهزة البدن
هنا نقول: هل يعدّ بدن الإنسان بما فيه من أجهزة مدهشة: التغذية، الهضم، التصفية، النموّ، الإنتاج، الدم، القلب، الكبد، الكلية، السمع، البصر، وأعجب من ذلك كلّه جهاز الذهن ومركز الإدراك وغيرها الكثير، هل يعدّ هذا كلّه أقلّ أهميّة من جهاز ساعة؟ ألا يجب أن يتيقّن الإنسان العاقل لدى التأمّل أنّ صانع هذا البدن ذو إرادة وشعور وقدرة لا متناهية؟ مع العلم أنّ هذه الساعة وأمثالها هي أيضاً من صنع الله، قال تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾(الصافات: 96)؛ لأنّ الأجزاء الأصليّة لكلّ شيء يصنعه البشر هي ممّا خلق الله سبحانه، بالإضافة إلى أنّ الإرادة والشعور والفهم والقدرة التي اعتمدها الإنسان في صناعته هي أيضاً مخلوقات الله.
*مقتبس من كتاب القلب السليم، ص213-221.
1- ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (يونس: 101).
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 54.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج3، ص261.
4- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 55.
5- بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 22، ص 431.
6- للشيخ البهائي عليه الرحمة بيان حول هذا الحديث ونظائره، خلاصته أنّ العبادة توصل إلى ثواب الله، أمّا التفكّر فيوصل إلى الله تعالى، وثمّة فرق كبير بين ما يوصل إلى الله وما يوصل إلى ثوابه عزّ وجلّ.
7- نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص270.
8- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 55.
9- مرآة العقول، العلامة المجلسي، ج 7، ص342 (بتصرّف).
10- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 55.
11- «ڨولتر» أشهر الفلاسفة والكتّاب الفرنسيّين (1694م – 1778م) الذي يعدّ من أكبر العقول البشريّة, يقول في كتابه «القاموس الفلسفيّ»: «الطريق الطبيعيّ للوصول إلى معرفة الله وأفضل الطرق لتنمية المدارك والمشاعر العامّة، هي أن لا نحصر تأمّلنا وتفكيرنا بنظام الخلق والإيجاد بل نوجّه فكرنا وذهننا إلى الأهداف والحِكَم التي خلق لأجلها كلّ من الموجودات». ويضيف: «عندما أنظر إلى الساعة التي يدلّ عقربها الصغير على الأوقات المختلفة, أصل حتماً إلى نتيجة هي أنّه قطعاً ثمّة عقل وفكر رتّب عجلات هذا الجهاز بحيث يستطيع العقرب بسب ذلك النظم والترتيب تعيين الساعات المختلفة. كذلك عندما أنظر في أعضاء البدن أصل إلى مثل هذه النتيجة، وهي أنّه قطعاً ثمّة عقل نظّم هذه الأعضاء والأجزاء والأجهزة وجعلها جاهزة للحياة». «فرهنگ قرآن»، ص 356.