الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب قدس سره
عندما يولد الإنسان ويبدأ رؤية الموجودات، لا يكون قد امتلك بعدُ العقل والقدرة على التمييز، حتّى يستطيع أن يعرف الله بواسطتهما. وعندما يبلغ مرحلة التمييز والعقل، تتملّكه عادةً رؤية هذه الموجودات طيلة سنين دونما اعتبار فيها، فيصبح أسيراً لهذه العادة بحيث لا يرشده نظره إلى وجود خالق عظيم عالم قدير. باختصار، يصبح نظره إليها نظر عادة لا عبرة.
* نظرة عبرة لا عادة
إذا رأى الإنسان شيئاً لم يره من قبل، يقول مباشرة “الله أكبر، ما أعجب هذا المخلوق!”. من هنا، إنّ واجب الإنسان بعد أن يبلغ مرحلة العقل أن يعتبر بكلّ ما يراه ويتنبّه لدلالته على وجود الله وعظمته وقدرته وعلمه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف: 105). وما أكثر الآيات التي يُعرض الناس عنها فلا يعرفون الله من خلالها. يجب التأمّل بدقّة في كتاب الوجود ليدرك الإنسان عظمة الله ووحدانيّته.
* قصتان للعِبَرة
لزيادة البصيرة في طريق التفكير، نذكر هاتين القصتين:
الأولى: السلطان الكافر والوزير المؤمن
يُحكى أنّه كان في قديم الزمان ملك كافر وكان له وزير موحّد مؤمن. وذات يوم، فكّر الوزير بطريقة لهداية الملك وحمْله على التفكير، فأمر بإقامة بناء فخم في صحراء مقفرة، وأمر أن تُغرس حوله أنواع الشجر والورود. وبعد اكتمال البناء والغرس، مرّ الملك والوزير في طريقهما إلى الصيد بالقرب من ذلك البناء، فتعجّب السلطان وسأل: “من بنى هذا؟ لقد مررت من هنا كثيراً وما رأيت بناء”. أجابه الوزير: “لعلّه وُجد صدفة دون أن يبنيه أحد”. تساءل الملك: “وهل هذا ممكن أو معقول؟”.
قال الوزير: “نعم، فهنا مجرى السيل، ولعلّ السيل اقتلع الصخور من الجبال فتكسّرت في الطريق، واقتلع الأشجار من الغابة فتقطّع بعضها ليصبح أبواباً، وبقي بعضها الآخر سالماً لينغرس هنا، والطين احتمله السيل، وعندما وصل الجميع إلى هنا، انتظم هذا البناء بهذا الشكل”.
قال السلطان: “ما من عاقل يقبل بهذا الكلام. إنّ هذا البناء يشهد بأنّ مهندساً أو معماراً مدركاً عاقلاً بناه”.
انتهز الوزير الفرصة قائلاً: “أنت تقول إنّ العاقل لا يمكنهُ التصديق بأنّ بناءً كهذا وُجد من غير صانع مدرك وعاقل، فهل هذا البناء أكثر أهميّة من بناء جسدي وجسدك وسائر الناس والحيوانات وأنواع النباتات وعالم الوجود بهذا النظام البديع المحيّر؟
وهكذا، استطاع الوزير بهذا العرض أن يحرّك فطرة الملك، فأشرق نورها في نفسه وعرف بها ربّه.
الثانية: بياض البيضة وصفارها
دخل أبو شاكر الديصاني -وهو زنديق ملحد- على الإمام الصادق عليه السلام فقال له: دلّني على معبودي، فقال عليه السلام: اجلس. فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها، فطلب من الغلام البيضة، فناوله إيّاها، فقال عليه السلام: يا ديصاني، هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبّراً؟ فأطرق مليّاً ثمّ قال: “أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه”(1).
* لا نفاد لكلمات الله
من نافلة القول إنّ الإنسان لا يستطيع إحصاء آيات الله وشواهد وحدانيّته، ولو أنّ الأشجار صارت أقلاماً، والبحار حبراً، تنفد الأقلام وتنفد البحار ولكنّ آيات الله لا تنفد ولا تنتهي: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾. (الكهف: 109). ذلك أنّ كلّ موجود هو كلمة من كلمات الله تشهد على علم خالقها وقدرته ووحدانيّته وعدم محدوديّته ذاتاً وصفاتاً.
أيّها القارئ العزيز، تأمّل جيّداً في حالاتك أنت والآخرين، فما أكثر الأمور التي يهيّئ الإنسان مقدّماتها بحيث يصبح تحقّقها قطعيّاً لكنّها لا تتحقّق، بل أحياناً يتحقّق ضدّها. أليست هذه التغيّرات شاهداً كبيراً على وجود قدرة فوق قدرة الإنسان، وهي قدرة الله ربّ العالمين؟ يبقى أن تجلي بصيرتك في نفسك وفي هذا الكون ليتلقّى القلب إشارات الإيمان.
* شدّاد: سبقه أجله
تذكر كتب التاريخ أن شدّاداً أمر أن تُبنى له مدينة كلّ ضلع منها أربعون فرسخاً، لبنةً من ذهب وأخرى من فضّة، وزُيّنت بأشجار من الذهب الأحمر، وعُلّق عليها بدل الفواكه الجواهر، وصُبّ اللؤلؤ والمرجان في القنوات عوضاً عن الحصى. وعندما أنهى عماله بناءها، ذهب شدّاد لافتتاحها ليراها، ولكن سبقه أجله فمات قبل أن يصل إليها.
* مع كلّ نفوذهم.. ضعاف
طارد فرعون النبيّ موسى عليه السلام وبني إسرائيل بجيش قوامه ستمئة ألف مقاتل حتّى يُرجعهم ويعذّبهم، وكان متأكّداً أنّه منتصر عليهم لا محالة. وعندما وصل إلى النيل، رأى أنّه فُتح فيه اثنا عشر طريقاً سلكها بنو إسرائيل ونجوا، فسلك فرعون وجيشه أيضاً تلك الطرق. وعندما أصبحوا جميعاً وسط البحر، أطبق الماء عليهم بأمر الله وغرقوا جميعاً. وألقى نمرود النبيّ إبراهيم عليه السلام في النار المضطرمة ليقتله، ولكنّ إبراهيم لم يحترق وخرج منها سالماً، وقُتل نمرود على يد أضعف مخلوق وهو البعوضة.
وأبرهة توجّه نحو مكّة على رأس جيش جرّار مستخدماً الفيَلة المدرّبة على الحرب، بهدف هدم الكعبة المعظّمة، ولكنّه لم يحقّق غايته، وأرسل الله عليهم جيشاً من الطيور، يحمل كلّ طير ثلاث حصوات مجمرة، ورموا ذلك الجيش بها فمزّقوه شرّ تمزيق. فهلّا تعتبر أيّها الإنسان قبل فوات الأوان؟
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 3، ص 31 – 32.