لكل إنسان عُمر معين ومحدد، ولكنه لا يملك عمره، ولا يعرف مقدار عمره، ولا يعرف متى ينتهي، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، وعليها أجمع البشر.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “عَجِبْتُ لِمَنْ لا يَمْلِكُ أَجَلَهُ كَيْفَ يُطيلُ اَمَلَهُ”.
يعجَبُ الإمام (ع) وحق له أن يعجَبْ، والحَقّ أن معظم أحوالنا وأفعالنا تثير العَجَب، فجميعنا قد نُشَكِّك في الكثير من الحقائق رغم ثبوتها وتسالمنا على صحتها، ولكننا لن نعثر على أحد من البشر يشكِّك في الموت، وأن له أجَلاً مَحتوماً لا يتخطاه، ولا يقدِرُ على تأخيره ولو أعانه على ذلك كل الخلق من إنس وجِن وملائكة، فرغم اختلاف البشر في الفلسفات والعقائد والأفكار، لكن الموت هو الحقيقة الكبرى التي أجمعوا عليها، ولم يَشُذَّ منهم أحد عن الإيمان بها.
نعم اختلفوا في فهم حقيقة الموت، هل الموت انعدام به تنتهي رحلة الإنسان ولا شيء بعدها، أم أنه انتقال من عالم إلى عالم آخر؟، وإذا كان انتقالاً إلى ذلك العالم فكيف يكون شكل الحياة فيه؟، واختلفوا في تفاصيل كثيرة في هذا الشأن، ولكنهم يُجمعون على أن لا دوام لحياة الإنسان في الدنيا، وأنه لو طال عمره مئة ألف عام فإنه مَيِّت لا محالة.
وإذا: فلكل إنسان أجَل، والأجل هو المُدَّة المضروبة له في الحياة، وبعبارة أخرى: لكل إنسان عُمر معين ومحدد، ولكنه لا يملك عمره، ولا يعرف مقدار عمره، ولا يعرف متى ينتهي، وهذه حقيقة أخرى لا ينكرها أحد، وعليها أجمع البشر، وسواء آمنوا أن الله هو الذي يُقَدِّر أعمارهم، أم أن الطبيعة ذاتها قدَّرَته كما يقول الملاحدة، وباطلٌ ما يقولون، لكنهم أي البشر لا يملكون إلا التسليم للجهل بمقدار أعمارهم.
إن جهل الإنسان بأجله له فائدتان مهمتان وضروريتان:
الأولى: ألا يُطيل أملَه، أي لا يُؤَمِّل أن يعيش ليوم الغد بل لا يُؤَمِّلُ أن يعيش لساعة أخرى، وهذا يدفعه إلى الدَّأب في العمل، وعدم التَّواني والكَسَل والتَّسويف والمُماطَلة، سواء كان العمل لدنياه أم لآخرته، فيحرص على استثمار كل لحظة من عُمرٍ لا يدري متى ينتهي لينجز ما يجب أن ينجزه، وليستكثر من الخير والبِرِّ والعمل الصالح، ويحرص على أن يكون شخصاً إيجابياً في كل شؤونه، فتستوي علاقته بالله فلا تكون منه إلا الطاعة وطلب الرضا والتقرب إليه بأنواع القُرُبات، وتستوي علاقته بالناس، فلا يكون منه لهم إلا الخير، ولا يرجو لهم غير الخير. وبهذا يكون الجهل بالأجل أمراً إيجابياً يدفع المرء إلى الصلاح وفعل الخير.
الثانية: كما يتوقع أن ينزِل الموت بساحته بعد ساعة كذلك يتوقع أن يطول عمره وهذا إيجابي أيضاً فلا يقعد عن عمله وواجباته تجاه الحياة، بل يضع لنفسه أهدافاً قصيرة ومتوسطة وبعيدة الأمد، ويضع الخِطَط المناسبة لإنجازها، فيزرع، ويبني، ويَؤسِّس، ويُؤَمِّلُ أن يجني الثمار ويحصل على النتائج التي يرجوها.
وبهاتين الفائدتين يعيش حياته المقدَّرة له بتوازن واعتدال، عاملاً لدنياه، وعاملاً لآخرته في آن معاً، فيكسبهما جميعاً، ويحقق مشيئة الله الذي أراد له أَلّا يترك الدنيا للآخرة، وأَلّا يترك الآخرة للدنيا.