Search
Close this search box.

عَداوَةُ الْأَقارِبِ أَمَضُّ مِنْ لَسْعِ الْعَقارِب

عَداوَةُ الْأَقارِبِ أَمَضُّ مِنْ لَسْعِ الْعَقارِب

العداوة قَبيحة مَذمومة مع البعيد، فكيف مع القريب الذي يرتبط معه بروابط مُقدَّسة لا يمكنه قطعها، وهي لا تكون إلا من الجاهل الذي يهون عليه القطيعة مع أرحامه وأهله والذين سيحتاج إليهم يوماً من الأيام.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “عَداوَةُ الْأَقارِبِ أَمَضُّ مِنْ لَسْعِ الْعَقارِب”.
يقال: إن الأقارب عقارب. وهذا القول ليس صحيحاً ولا يمكننا الموافقة عليه، صحيح أن العداوة بين الأقارب مُحتَمَلة كونهم يشتركون في حياة اجتماعية قريبة، والحياة الاجتماعية لا بد وأن ينشأ منها خلافات بسبب اختلاف الآراء والتوجهات، أو بسبب سوء الفَهم من هذا القريب أو ذاك، أو بسبب الخطأ المتعمَّد أو غير المتعَمَّد، أو بسبب الخِلاف في أمور المعاش، أو بسبب التقصير في الحقوق والواجبات، أو بسبب التحاسُد، أو بسبب الظلم الذي قد يقع من القريب على قريبه، وهذا لا يحصل مع البعيد الذي لا يتشارك مع الشخص في حياته الأسرية أو الاجتماعية.
لكن الصحيح أيضاً أن ما يجمع الأقارب أكثر مِمّا يفرقهم، وما يجعلهم مُحبين لبعضهم أكثر مما يجعلهم أعداء وعقارب، فبينهم رابطة الدَّم والرَّحِم والأُخُوَّة والمَوَدَّة الفطرية التلقائية، بينهم ارتباط وجودي تكويني جِيني، وهذا يجعل العلاقة بينهم وثيقة ومتينة، ويخلق بينهم صحبة مَديدة تبدأ من تكوِّنهم في نفس الرَّحِم، وتستمر طول حياتهم في الدنيا، وما يصاحبها من احتضان عائلي، ورعاية أسرية، وحياة مشتركة، وعواطف ومشاعر ووشائج تشدُّهم إلى بعضهم، وتُنشئ بينهم روابط لا يسهل معها قطع تلك العلاقة والانفلات منها، فإذا ضَمْمنا إلى ذلك اتصافهم بأخلاق كريمة والتزام ديني يدعواهم إلى احترام بعضهم بعضاً، وأدائهم حقوق بعضهم بعضاً، وإعانة وصِلَة بعضهم، والدفاع عنهم، فلا شكَّ أن العلاقة بينهم ستكون من أوثق العلاقات وأوطدها، وتكون سبباً لراحة الإنسان وأُنسِهِ وأمانه.

لكن هذه العلاقة رغم عمقها ومتانتها وتَجَذُّرها وجَبريتها كون الإنسان لا يختارها ولا يُنشئها بإرادته، بل تولَد معه كما يولَد معه سمعه وبصيره وقلبه، رغم ذلك قد تعصف بها الخلافات في بعض الأحيان وفي ظروف ولأسباب طارئة نتيجة سوء الفَهم، أو الطَّمع، أو الحَسَد، أو الغيرة، أو تضارب المَصالح المادية، أو دخول عوامل خارجية مؤثرة في التسبب بالخلاف وإذكاء نار العداوة والبغضاء، من غيبة، أو نَميمة، أو فَضح سِرٍّ، أو هَتك خصوصية، أو إساءة إلى سُمعة، أو سوى ذلك من الأسباب، والإنسان يتأثر بجميع ما سبق، وقد لا يمكنه أن يضبط مشاعره وعواطفه، أو يتحكَّم في انفعالاته وغضبه، وهو حريص على حقوقه أو ما يراه حقاً له، فيعادي حتى أقرب الناس إليه، يعادي والدَيه، ويعادي أخوته، ويعادي أرحامه لسبب من الأسباب الآنفة الذكر.
هذه العداوة من أسوأ أنواع العَداوات، وأكثرها تأثيراً في النفس، وأشدّها إيلاماً للإنسان، والجراح التي تُحدثها في النفوس قد لا تبرأ ولا تندَمل، وهي تضرب الأسَرَ بعاصفة هوجاء من البغضاء والآلام، وتؤدي إلى قطيعة الأرحام، ناهيك عن أن الأقارب يعرفون خصوصيات وأسرار ونقاط ضَعف بعضهم البعض، وهذا كله أو معظمه لا يكون في العداوة مع البعيدين من الناس، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): “عَداوَةُ الْأَقارِبِ أَمَضُّ مِنْ لَسْعِ الْعَقارِب”.
العداوة قَبيحة مَذمومة مع البعيد، فكيف مع القريب الذي يرتبط معه بروابط مُقدَّسة لا يمكنه قطعها، وهي لا تكون إلا من الجاهل الذي يهون عليه القطيعة مع أرحامه وأهله والذين سيحتاج إليهم يوماً من الأيام، وكم نشاهد أخوة عاشوا رَدحاً من حياتهم أعداء متخاصمين ثم جمعتهم مصيبة من المصائب، أو نازلة من النوازل، وكم نرى أخاً عادى أخاه على مِتر من الأرض، أو ميراث زائل، فإذا به يقف في الصَّف يتقبل تعازي الناس بأخيه، فهل يعادي إلا الجاهل؟!
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل