مع الأسف، تكثر المشاهد التي بتنا نراها اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ لمحاولة نزع أحدهم حجاب امرأة عن رأسها أثناء حضورها في مكان عام، أو توجيه الشتائم إليها، سواء أكان ذلك في الدول الغربيّة أم الإسلاميّة.
لقد تحوّلت مسألة الحجاب منذ قرن على الأقلّ إلى قضيّة يُثار الجدال حولها تحت ذرائع وحجج عديدة واهية، نتعرّف إليها في هذا المقال.
* الهويّة الدينيّة
أصبحت بعض الدول الغربيّة تمارس سياسة التضييق على المحجّبات، ففي فرنسا على سبيل المثال، باتت القوانين والأنظمة تمنع ارتداء الحجاب في المؤسّسات الرسميّة بما فيها المدارس بحجّة دلالته الدينيّة التي تتعارض مع هويّتها العلمانيّة اللادينيّة.
* الطابع السياسيّ
في بلدان أخرى عربيّة أو إسلاميّة، يتعرّض الحجاب للاتّهام بأنّه انتماء سياسيّ نظراً لانتشاره الواسع بين النساء في تنظيمات إسلاميّة تشهد صعوداً لم يكن مألوفاً قبل عقود. ويربط بعضهم بين هذا الانتماء السياسيّ وشكل الحجاب ولونه الأسود الذي يتشابه إلى حدّ بعيد في كلّ من إيران ولبنان، علماً بأنّ هذا اللون وحتّى الشكل هو نفسه ما ترتديه النساء في صعيد مصر، أو في العراق.
* الأصل الدينيّ
ثمّة من يذهب في هذا النقاش فيدّعي أنّ الحجاب ليس واجباً بحسب النصوص أو التشريعات الدينيّة الإسلاميّة، أو أنّه غير ملزم للفتيات في سنّ التكليف، وأنّه يجب أن يُترك الخيار فيه حرّاً من دون أيّ إلزام أو إكراه. علماً بأنّ أصحاب مثل هذه الدعوات لا يقبلون في الوقت نفسه خيار الحجاب الحرّ، إذ يريدون معرفة الأسباب التي أدّت إلى أن تختار الفتاة الحجاب، ما يعني ضمناً أنّهم لن يقبلوا الحريّة إذا كانت ستؤدّي إلى قرار الحجاب!
* تقليد الغرب
تأثّر النقاش حول الحجاب بتحوّلات فكريّة واجتماعيّة بدأت في مطلع القرن العشرين، وأهمّها فكرة التقدّم أو التمدّن. ففي هذه المرحلة، تعرّضت معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة إلى الاحتلال الغربيّ الأوروبيّ المباشر، الذي كان من نتائجه ظهور تيّار الافتتان بالغرب المحتلّ، المتقدّم والمهيمِن، في أوساط ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة. وقد عدّ هؤلاء أنّ الاقتداء بالغرب وتبديل الزيّ هو من مظاهر التقدّم الذي يجب الاقتداء به وتقليده. هكذا فرض أتاتورك في تركيا على الرجال ارتداء القبّعة على الطريقة الغربيّة، ومنع حجاب النساء في الوقت نفسه. وكذلك فعل رضا بهلوي والد شاه إيران المخلوع ظنّاً منه أنّ هذا المنع سيأخذ البلاد والعباد إلى طريق التقدّم الغربيّ.
* تيّار تحرّر المرأة
لم يقتصر الأمر على مجرّد قرارات وقوانين لمنع الحجاب، بل ترافق ذلك في تلك المرحلة مع بداية دعوات لتحرّر المرأة، كانت استجابة لما يجري في الغرب أيضاً من دعوات مماثلة، حملت لواءها سيّدات من أسر أرستقراطيّة، التي عدّت بدورها نزع الحجاب من علامات التحرّر والتمدّن، في الوقت الذي كان في مثل هذا الأمر تحدّ كبير للمجتمع في البيئات العربيّة والإسلاميّة. ففي إيران مثلاً، وقف العلماء في الحوزة العلميّة ضدّ قرار الشاه، منع الحجاب وفرض السفور، كما اعترض علماء عرب ومسلمون على قرار منع الحجاب في تركيا. لكن في الوقت نفسه، كان تيّار التغريب في هذه البلدان يشجّع مثل هذه القرارات ويؤيّدها، ظنّاً منه أنّ سفور النساء أو ارتداء القبّعة هو سبيل الالتحاق بركب التقدّم الغربيّ.
وفي الوقت الذي تطوّر فيه هذا التيّار طوال القرن الماضي، وانضمّت حركات نسائيّة إليه تطالب بـ“حقوق المرأة”، تأسّياً بالتجربة الغربيّة، تطوّر في الوقت نفسه التيّار الإسلاميّ، وانتشر معه ارتداء الحجاب، وحتّى اعتناق الإسلام في أنحاء كثيرة من العالم.
* ربط الإسلام بالتخلّف
لم تنشغل الحركة النسائيّة العالميّة بفكرة الحجاب، فلم يكن الأمر بالنسبة إليها قضيّة مهمّة في مجتمعاتها الغربيّة في القرن الماضي، بل كانت المساواة في الأجر، على سبيل المثال، وفي ساعات العمل، والحقّ في التصويت والانتخاب هو ما تريده تلك الحركات. لكنّ النسويّة في بلادنا لم تجد في بداياتها من سبيل لتحرّر المرأة وتقدّمها إلّا بنزع الحجاب، وقد ربطت نزعه بنزع التخلّف. وقد استفادت هذه النسويّة المحليّة من أطروحات فكريّة روّج لها مثقّفون عرب ومسلمون وحتّى باحثون غربيّون مفادها أنّ الإسلام هو سبب التخلّف وليس الاحتلال، وأنّ التقدّم يبدأ بالتخلّي عن كلّ ما جاء به الإسلام من قيم، وضوابط، وعادات، ورموز، وزيّ، وواجبات. أمّا المطلوب للوصول إلى “التقدّم”، فهو تقليد التجربة الغربيّة التي تخلّت عن كلّ ما يمّت إلى الدين بأيّ صلة على مستوى الأنظمة والقوانين، وحتّى على مستوى الزيّ، أو الضوابط الأخلاقيّة والسلوكيّة.
* القضيّة النسويّة في مواجهة الدين
ساهم في هذا التوجّه نحو تقليد الغرب بعض النساء ممّن تبنّينَ بقوّة قضيّة النسويّة، وقد عملنَ على ثلاثة مستويات فكريّة:
1. ربط وضع المرأة والأسرة بتخلّف القوانين والتشريعات الإسلاميّة.
2. ربط تحرّر المرأة وتحصيل حقوقها الاجتماعيّة والقانونيّة بتغيير العادات والتقاليد المجحفة بحقّها، وأبرزها التخلّي عن الحجاب.
3. إضعاف السلطة الأبويّة والأسريّة التي تمنع تحرّر المرأة.
ومن أمثال هؤلاء الباحثات من النساء نوال السعداوي في مصر، وفاطمة المرنيسي في المغرب، وياسمين أرآت وفريدة أكار ونيلو فرغول في تركيا، وفي إيران أسّست شهلا شركت مجلّة زنان عام 1992م للدفاع عن حقوق المرأة. وصدرت المؤلّفات والمجلّات التي تنتقد العادات والتفسير الدينيّ لقضيّة المرأة، وتدعو إلى المساواة التامّة بين الجنسين، وإلى التخلّي عن الحجاب بزعمهم أنّه يقيّد المرأة ويمنع حرّيتها.
وكتب في الوقت نفسه بعض العلماء والمفكّرين من العرب والمسلمين في مطلع القرن العشرين عن تحرّر المرأة، مثل: قاسم أمين، وفرح أنطون، ورفاعة الطهطاوي الذين كرّروا بدورهم اتّهام الدين بالمسؤوليّة عن واقع المرأة المتخلّف، ودعوا إلى اللحاق بالغرب وتقليده لتجاوز هذا التخلّف. ومن أبرز من اشتهر من النساء في لبنان نظيرة زين الدين (1908م- 1976م) التي لُقّبت بالمرأة الحديديّة بعدما نشرت كتابها «السفور والحجاب»، والذي دافعت فيه عن حريّة المرأة ملخصةً موانع الحريّة في ارتداء الحجاب فحسب.
هكذا جعلت بعض النسويّات نزع الحجاب أولويّة لتحرير المرأة. ولم يشكّل لهنّ الاحتلال الذي كان يجثم على صدر البلاد العربيّة والإسلاميّة أيّ قلق، ولم يفكّرن ولو للحظة في ربط التحرّر بالخلاص من الاحتلال الغربيّ لبلادنا، لا بل ذهبن إلى حدّ الدفاع عن الشذوذ أيضاً بذريعة الحريّات نفسها التي رفعنها ضدّ الحجاب!
* الحقيقة مغايرة تماماً
إنّ المشاكل التي تعيشها المرأة في بعض المجتمعات وتجاهل حقوقها، لا علاقة له على الإطلاق بالحجاب. وإنّ تخلّف بعض المجتمعات ناجم عن فشل الرؤى الاقتصاديّة، والتبعيّة، وسوء الإدارة، والفساد،… ولا علاقة لذلك كلّه بالحجاب على الإطلاق. وإذا نظرنا بدقّة، فإنّ التجربة الغربيّة نفسها التي يريد بعضهم تقليدها على طريق التقدّم والتمدّن، لم تعد أنموذجاً، حتّى في عيون الغربيّين أنفسهم؛ فما تشهده المجتمعات الغربيّة من تحلّل، وإرغام على الشذوذ، وانهيار العلاقات الإنسانيّة، دفع كثيراً من فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع إلى الحديث عن «نهاية الغرب» و«أفول الغرب» و«موت الغرب». وليس من الحكمة في شيء تقليد من ينعى نفسه ويبشّر بأفول حضارته، ويأتي متأخرٌ ليقلده في ما يُسبب أفوله!