د. بتول زين الدين*
«في فترة التحقيق، انتزع الإسرائيليّون حجابي وداسوا عليه. لقد كانت تلك أصعب لحظة من لحظات الاعتقال، لا بل أصعب لحظة في حياتي!»، تقول الأسيرة المحرّرة رسميّة ج.
مواقف كثيرة صعبة تعرّضت لها المعتقلات في سجون العدوّ الصهيونيّ، وبحسب ما قلن، أقساها كان انتزاع حجابهنّ.
* الحجاب… في دائرة الاستهداف
لقد شكّل ارتداء الحجاب قضيّة شائكة في فترة الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان (1982م – 2000م)، إذ عانت النساء المحجّبات من تقييد حريّتهن سواء داخل قراهنّ الجنوبيّة أم خارجها، الأمر الذي دفع ببعضهنّ إلى الإقامة الجبريّة في منازلهنّ لفترة من الزمن حتّى لا يتعرّضن لمضايقات، وهو ما حال بينهنّ وبين متابعتهنّ تحصيلهنّ العلميّ. كما دفع هذا الواقع ببعضهنّ إلى المبيت مساءً وهنّ يرتدين الحجاب بسبب كثرة مداهمات جنود العدوّ أثناء الليل، ومنهنّ من عانت من امتناع قوّات الاحتلال وعملائها عن إعطائها تصريحاً يسمح لها بالانتقال إلى بيروت بسبب حجابها، هذا فضلاً عن التعرّض للتنمّر والسخرية والتهديد بالاعتقال. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ بعضهنّ اعتُقلن في معتقل الخيام، فكان لكلّ منهنّ حكايتها الخاصّة مع الحجاب. فإنّ أوّل ما كان يقوم به المحتلّون عند اعتقال الأسيرات، هو نزع حجابهنّ بالقوّة، ومن ثمّ تصويرهنّ من دونه.
* أسلوب إهانة
تقول رسميّة ج. : «في شهر كانون الثاني عام 1990م، اقتادوني إلى معتقل الخيام، وقد نزعوا عنّي حجابي أمام الذين كنت أعرفهم ويعرفونني. وعندما وصلنا إلى بوّابة المعتقل، رأيت امرأة مسنّةً من بلدة الطيري ظهرها محنيّ وعمرها نحو 85 سنة، كانت تقول لهم: «أعطوني منديلاً»! كان كلّ همّها الحصول على منديل تضعه على رأسها لأنّهم نزعوا عنها حجابها!».
* أسلوب ضغط
في بعض الحالات، اعتمد العملاء أسلوب نزع الحجاب للضغط على الأب أو الزوج أو الأخ، وبهذا الصدد تذكر سكنة ب.: «استمرّ الوضع على حاله من التعذيب في باحة الشمس لأكثر من ساعتين وأنا أجثو على ركبتيّ، فيما أحضروا أخي ليراني من خلف شبّاك غرفة التحقيق وهو يتألّم لحالي ولهول ذلك المنظر، وجنود العدوّ يضغطون عليه بالقول: انظر إلى أختك وهي تتعذّب في الساحة من دون حجاب. أنتم لا تحبّون أن يرى أحد نساءكم من دون حجاب»!
الأمر نفسه تكرّر مع سهام ص. التي تقول: ”صوّرتني إحدى المجنّدات العميلات من دون حجاب، وعندما سألتها عن السبب لم تجبني. ولكنّني كنت أعلم أنّه أسلوب للضغط على زوجي عندما يرى الصورة. في وقت لاحق، ساقوني للتحقيق أمام زوجي، فغطيت وجهي بكفيّ فطلب منّي المحقّق أن أكشف عن وجهي، فقال له زوجي بنبرة حادّة: “أحضروا لها الحجاب! فكّوا الأصفاد من يديها!”، إلّا أنّهم رفضوا ذلك“.
* أسلوب عقاب
ثمّة هدف من وراء نزع الإسرائيليّين حجاب الأسيرات، وهو اعتماده كأسلوب من أساليب العقاب. تروي لنا سعاد س. حادثة حصلت معها، فتقول: “لم أكن محجّبة أثناء اعتقالي، أمّا زميلاتي فبلى. في فترة التحقيق، كانوا ينزعون عنهنّ حجابهنّ بهدف الابتزاز والضغط. وفي فترة الانتفاضة التي حدثت داخل المعتقل، نزعوا عنهنّ الحجاب لمعاقبتهنّ». وهو ما تؤكّده فريدة ر. قائلة: «في 18 كانون الأوّل عام 1993م، نُزع عنّا الحجاب عقاباً، فرحنا نضع قمصاناً على رؤوسنا أو نمزّق قطعاً من ثيابنا لنغطي بها رؤوسنا».
* حجاب بديل
كان لنزع الحجاب عن الأسيرات تداعيات عدّة، لم تقف عند حدود المعاناة النفسيّة والألم المعنويّ فحسب، بل كان له أثره على أداء العبادات، وهذا ما حدث مع سهام ص. التي تقول موضّحة: «وصلت إلى معتقل الخيام مع وقت الأذان، وعندما أردت أن أصلّي وكانوا قد نزعوا عنّي الحجاب، ما كان منّي إلّا أن أخذت بطّانيّة ووضعتها على رأسي وصلّيت».
أمّا فريدة ر. فساعدتها زميلتها في الزنزانة لتتمكّن من تأدية الصلاة وهي محجّبة، وعن ذلك تقول: ”نقلوا إلى زنزانتي فتاة من بلدة كفركلا تدعى هدى س. اعتُقلت قبلي بعشرة أيّام، وكانت طيّبة رقيقة، وقد انسجمت جدّاً معها. وعندما يحين وقت الصلاة، كنت لا أملك ما أستر به رأسي، فكانت تنزع عنها الكنزة التي ترتديها وتعطيني إيّاها لأستر بها رأسي“.
وهنا تضيف آمنة د.: ”منذ اليوم الأوّل الذي دخلت فيه إلى المعتقل، نُزع عنّي الحجاب، ولكنّني غطّيت رأسي بقميص قطنيّ بعد أن قصصته وحوّلته إلى ما يشبه القبّعة، ثمّ لففته على رأسي جيّداً وصلّيت. بعد نحو ثلاثة أو أربعة أشهر، أرسلت لي أمّي أغراضاً، وكم كانت فرحتي كبيرة حين وجدت أنّ من بينها حجاباً“.
* الحجاب… زينة النفس
لقد كان الاعتقال دافعاً قويّاً للأسيرات لتوطيد العلاقة مع الله، سواء من خلال القيام بالأعمال المستحبّة، أو قضاء الواجبة منها، أو أداء العبادات بخشوع أكبر، حتّى أنّ منهنّ من التزمنَ بالواجبات خلال فترة الاعتقال كالبدء بتأدية الصلاة وارتداء الحجاب. وهذا إنّ دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على فشل مساعي جنود العدوّ بإهانة الحجاب والتقليل من شأنه وقدسيّته، لا بل إنّ قيمته بفعل تلك الممارسات الشنيعة ازدادت رفعةً لدى الأسيرات اللاتي تمسّكن به أكثر من ذي قبل. عن ذلك تقول نوال ب.: «عندما اعتُقلت لم أكن أرتدي الحجاب، إلّا أنّ المعتقل غيّر أموراً كثيرة في حياتي، دينيّة ودنيويّة. هناك، أصبحنا أكثر تعمّقاً بالدين، وأكثر تقرّباً من الله سبحانه وتعالى وأكثر ارتباطاً بالأنبياء عليهم السلام وبتعاليمهم. فعاهدت الله حينها أن أتحجّب عندما يُفرج عنّي. وفعلاً، في اليوم الذي أُفرج فيه عنّي تحجّبت».
أما سونيا ب. التي قرّرت ارتداءه في المعتقل، فتروي لنا: «اعتُقلت في سنّ الـ 19 ولم أكن محجّبة، ولكن عندما رأيت كيف أنّ الإسرائيليّين يحاربون المحجّبات قرّرت أن أتحجّب. وبعد انتهاء فترة التحقيق تحجّبت والتزمت بالصلاة، فزاد الضغط عليّ». وتتابع سونيا: «بعد عشرة أيّام من التعذيب، كنت مبتلّة بالمياه ومتعبة، فقالت لي اللّحديّة: هيا قومي! فسألتها: إلى أين؟ قالت: لديك مقابلة مع أهلك. فقلت لها: كيف أذهب لمقابلتهم من دون حجاب؟! قالت: قومي قبل أن ينزل عليك الغضب! ساقتني إليهم بعد أن وضعت الكيس في رأسي. في تلك اللحظة عرفت ماذا يعني أن يحرموك من الحجاب!»(1).
لقد أثبت صمود المعتقلات المؤمنات أنّ أساليب القمع التي فرضها السجّان الصهيوني وعملاؤه ذهبت أدراج الرياح، بل على العكس زاد تمسّكهنّ بالقيم ومنها الحجاب.
(*) كاتبة وباحثة وأستاذة جامعيّة في كليّة الإعلام (الجامعة اللبنانيّة)، تدير مكتبة «حِراء، أمّ الكتاب» في بيروت.
(1) شهادات الأسيرات من كتاب ”سكوكع، دحنون والزيتون!“: حكاية معتقل بحياكة مطرّزات، الصادر عام 2023م عن جمعيّة الرابطة اللبنانيّة الثقافيّة، إعداد: د. بتول زين الدين.