دعاء عبد الله*
شكّلت عمليّة «طوفان الأقصى» مزيجاً من الصدمة والخيبة للولايات المتّحدة الأمريكيّة و«إسرائيل»؛ بسبب حجمها وأسلوبها وعنصر المفاجأة فيها، في ضوء ما كان مستقرّاً في الأذهان عن جاهزيّة العدوّ وقدراته العسكريّة المتفوّقة. ولعلّ أكثر ما كان ملحوظاً، وقع الخيبة من فشل استخبارات العدوّ في رصد أيّ إشارات مسبقة حول الهجوم، واستباقه وإحباطه، أو على الأقلّ الحدّ من خسائره.
* لماذا طوفان الأقصى؟
تمت العمليّة يوم السبت في ختام الأعياد اليهودية، وفي ذروة الاعتداءات على المسجد الأقصى، فكان توقيتاً غير متوقّع بالنسبة إلى جيش الاحتلال الذي كان يختمر في نفسه شعور بالراحة والانتصار، فضلاً عن احتماليّة قصد التزامن مع رمزية معركة 6 تشرين أول/أكتوبر 1973م؛ أي بعد نصف قرن!
وقد أصدرت حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) يوم الأحد في 21 كانون الثاني/يناير 2024م وثيقة رسميّة شرحت فيها أسباب عمليّة «طوفان الأقصى»؛ تحت عنوان «هذه روايتنا… لماذا طوفان الأقصى؟»، التي أكّدت أنّ العمليّة في سياق مواجهة مخطّطات الاحتلال الصهيونيّ للسيطرة على الأرض وتهويدها وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدّسات. وعليه، فإنّ العمليّة كانت خطوة ضروريّة واستجابة طبيعيّة بهدف التخلّص من الاحتلال، ومواجهة ما يُحاك من مخطّطات صهيونيّة تستهدف تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزّة، واستعادة الحقوق الوطنيّة، وإنجاز الاستقلال والحريّة كباقي شعوب العالم، وحقّ تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتها القدس. وتأكيداً لذلك، صرّح رئيس المكتب السياسيّ لحركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) السابق؛ إسماعيل هنيّة رحمه الله، قائلاً: «لقد حذّرنا العالم والحكومة الإسرائيليّة الفاشــيّة مـن المسـاس بالمسجد الأقصى والقدس، وقلنا لهم لا تلعبوا بالنار، ولا تتجاوزوا الخطّ الأحمر، ولكنّهم صمّوا آذانهم وأعموا أبصارهم». وأضاف: «لدى المقاومة معلومات مؤكّدة أنّ الاحتلال سيفرض السيادة الكاملة على المسجد الأقصى المبارك، وسيستمرّ في العدوان والاستيطان والاعتقالات والحصار».
* سرّ التسمية
تحمل تسمية معركة «طوفان الأقصى» أكثر من دلالة، سواء كان ذلك في استخدام مصطلح «طوفان» أم بإضافة «الأقصى» له. فمن معركة «الفرقان» في 2008م، إلى معركة «حجارة السجّيل» في 2012م، إلى معركة «العصف المأكول» في 2014م، ثمّ «سيف القدس» في 2021م، و«وحدة الساحات» في 2022م، وأخيراً «طوفان الأقصى» في 2023م، كلّها أسماء عمليّات ضد العدوّ الإسرائيليّ دفاعاً أحياناً كثيرة، وهجوماً في حالات أقلّ.
ورد مصطلح «الطوفان» في القرآن الكريم عند الحديث عن هلاك قوم نوح، وذلك بعد إصرارهم على الكفر وعنادهم مدّة 950 عاماً من دعوته عليه السلام لهم. والطوفان في اللغة يعني «ما كان كثيراً وعظيماً». يقول خبير الشؤون الأمنيّة في غزّة، إبراهيم حبيب: إنّ اسم المعركة «مرتبط بمعنى الحرب وهدفها الأساسيّ وهو المسجد الأقصى، وما يتعرّض له من تدنيس ومحاولة تقسيم زمانيّ ومكانيّ». وقد تعرّض المسجد الأقصى في الأسابيع القليلة التي سبقت عملية «طوفان الأقصى» لانتهاكات كبيرة جداً من قبل الاحتلال بالتزامن مع الأعياد اليهودية.
يربط المحلّل الفلسطينيّ بين هذه المعركة ومعركة سيف القدس: «سُمّيت طوفان الأقصى تيمّناً بالحالة الثوريّة التي كانت عام 2021م، والتي كان هدفها أيضاً المسجد الأقصى»، وإنّ حماس في تسميتها للمعركة لم تربط بين المعركة وغزّة، ولا الحصار والآلام التي يتعرّض لها سكّان القطاع، رغم أهميّة هذه الملفّات.
وقال مدير مركز «يبوس» للدراسات في رام الله سليمان بشارات إنّ اختيار الأسماء مهمّة صعبة في المعارك الاستراتيجيّة؛ تأتي «لمراعاة مجموعة عوامل وظروف بيئيّة ودينيّة وثقافيّة وعسكريّة ونفسيّة وغيرها». وأشار إلى أنّ القدس كانت حاضرة بقوّة في المواجهات العسكريّة التي جرت في السنوات الأخيرة لاعتبارات عدّة «أوّلها مكانة القدس والأقصى بشكلٍ أساسيّ، وهذا له ارتباط بالبُعد الدينيّ والهويّة الفلسطينيّة والإسلاميّة لمدينة القدس». وأشار إلى أنّ اختيار عنوان مرتبط بالقدس «يخلق حافزيّة داخليّة لدى المقاومين من جهة، والحاضنة الشعبيّة من جهة أخرى. في المقابل، هي «رسالة واضحة للاحتلال الذي يمارس الانتهاكات بحقّ القدس والأقصى بأنّ ما يجري جاء ردّاً على أفعاله واعتداءاته».
* لماذا تريد «إسرائيل» الأقصى؟
إنّ للأقصى أهميّة كبرى عند اليهود باعتباره موقع معبد القدس -حسب ادّعائهم-، الذي دُمّر تجسيده الهيروديّ عام 70م. وللتوضيح أكثر:
1. الزعم الصهيونيّ بأنّها أرض المعاد: بات معروفاً أنّ مزاعم الحركة الصهيونيّة أنّ القدس أرض معاد اليهود وموطنهم بعد الشتات وأنّها عاصمة مملكة النبييّن داوود وسليمان d… ما هي إلّا مزاعم لا دليل عليها ولا حجّة، بل بات واضحاً أنّها ذرائع نسجتها المنظمات العالميّة السياسيّة لتتخلص من اليهود المنتشرين في أوروبا، وتطوّر الأمر لاحقاً لزرعهم غدةً سرطانيّةً وظيفتها حراسة مصالح الغرب في المنطقة. واختيرت فلسطين لجمع يهود الشتات من بين احتمالات شملت إفريقيا وكندا.
2. القدس في قلب المشروع الإسرائيليّ: استمدّت الحركة الصهيونيّة -التي أنشأت الكيان المحتلّ ابتداءً- اسمها من اسم جبل صهيون في القدس، وكان النشيد الوطنيّ الذي كُتب عام 1878م قبل إنشاء الكيان بـ70 عاماً يُختتم بكلمة «القدس». لذلك تُعدّ القدس حجر الرحى في المشروع الإسرائيليّ -نظريّاً-. فلا غرابة، إذاً، في أن تكون القدس محلّ إجماع لدى مختلف أطياف المجتمع الإسرائيليّ، سواء من الناحية الدينيّة لدى التيّارات المتديّنة، أم الوطنيّة التاريخيّة المزعومة لدى التيّارات العلمانيّة.
* فشل المشروع الإسرائيليّ في القدس
عندما حاول الصهاينة بناء الجدار العازل عام 2003م، تطوّرت الأحداث لتنطلق العمليّات من القدس نفسها ومن المقدسيّين أنفسهم؛ وذلك ببساطة لأنّ التجربة أثبتت أنّه لا يمكن فصل المدينة عن محيطها وواقعها، كما لا يمكن إغفال أنّ المقدسيّين الفلسطينيّين ما زالوا الأغلبيّة في القسم الشرقيّ من القدس، بل إنّ نسبتهم تكاد تصل إلى 40% من مجموع السكّان في شطرَي المدينة كلّها، في الوقت الذي لا يشعرون بأيّ انتماء قانونيّ لهذا الكيان المزعوم. وهو ما يشير بوضوح إلى فشل مشروع ضمّ الأرض من دون ضمّ السكّان الذي تمّ عام 1967م. كما أنّ كلّ ما مرّ فيه الفلسطينيّون في القدس على مدار خمسة عقود لم يكن يؤدّي في النهاية إلّا إلى انفجار المجتمع المقدسيّ برمّته كما حصل في انتفاضة الأقصى عام 2000م، و«هبّة القدس» عام 2015م، وكلّ ما لحقهما من أحداث في 2017م، و2019م، و2021م؛ وصولاً إلى «طوفان الأقصى». والمحصّلة، أنّ المشروع الإسرائيليّ في القدس لا يمكن أن ينجح، بل إن دعوات اليمين المتطرّف في «إسرائيل» لتكرار أحداث النكبة لن تصلح في هذا الوقت وليست أكثر من أوهام، فما كان يمكن أن يصلح في الأمس لا يمكن أن يصلح اليوم، ومن يعش في حلم طويل فلا بدّ من أن يأتي يوم يستيقظ فيه على واقع يختلف تماماً عمّا كان يحلم به. وعند ذلك، لن يجد الكيان الصهيونيّ بدّاً من أن يفعل في القدس ما فعله سابقاً في غزّة؛ فلا يجد أمامه إلّا الانسحاب من شرقي القدس على الأقلّ، وبأيّ شكل، لإنقاذ وجوده.
* الطوفان يجمّد أمنيّات الكيان
نجح «طوفان الأقصى» في فتح طوفانٍ متعدّد الجبهات على الكيان: داخليّة وإقليميّة ودوليّة. ونجح في إحداث تبدّل تاريخيّ بناءً على فهم التاريخ، والاستفادة من دروسه، ولا سيّما بالاستناد إلى الميزتَين الحاسمتَين:
1. تعدّد الجبهات: فمن جنوب فلسطين، يوجد مقاومة حماس والجهاد الإسلاميّ والجبهة الشعبيّة وباقي فصائل المقاومة الباسلة، وتضحيات نسائها وأطفالها، ومعاقل أنفاقها وتخطيطها البارع البعيد النظر. ومن الشمال يوجد حزب الله بصواريخه ومسيّراته وحنكته التاريخيّة في إعماء وسائل الاستكشاف والتجسّس الإسرائيليّة.
2. العمق الإستراتيجيّ: هو متعدّد المواقع والقواعد:
أ. سوريا القريبة المباشِرة في مهام الإمداد والتدريب والتسليح، وهي التي تتلقّى الضربات عقاباً لها على إسنادها المقاومة العربيّة.
ب. إيران الأبعد من التماس المباشر مع الجبهة، والتي تملك أوراقاً حاسمة في دعمها للمقاومة، من حيث المدد والتسليح والتدريب، مع ميزة بُعدها النسبيّ عن طائرات العدوّ المعتدية. لكنّها هي الأخرى تتحمّل عقوبات قاسية لموقفها من فلسطين ومقاومتها.
ج. أمّا اليمن، مفاجأة طوفان الأقصى الكبرى، فيشهد أنّ القيادة في تنظيم أنصار الله عملت بقول شارل ديغول، فنظرت إلى الخريطة وتصرّفت على أساسها، لتصيب شرايين أساسيّة تمدّ العدوّ بأسباب الحياة، واستندت إلى موقعها الاستراتيجيّ عند مدخل أحد أهمّ خطوط سير التجارة العالميّة، إن لم يكن الأهمّ في العالم: البحر الأحمر، من أجل ضرب طوق حصار شديد على العدوّ.
د. أخذت المقاومة العراقيّة تدخل في المعركة بإسهام يبشّر بتعاظم مقبل يبدو أكيداً، لقربها من قواعد الإسناد الأمريكيّ للعدوّ الصهيونيّ، في العراق وسوريا.
ومع ميزتَي تعدّد الجبهات والعمق الاستراتيجيّ، اللتين فتح بابهما «طوفان الأقصى»، يبقى الكلام عن الداخل الفلسطينيّ، فالضفة الغربيّة تبدو على طريقها إلى التحوّل، وقد تحوّلت فعلاً إلى ساحة قتال ضد العدوّ الإسرائيليّ.
* إحياء القضية الفلسطينيّة
يكفي في معيار نجاح العمليّة أنّها أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة، وإلى مركز الاهتمام الدوليّ، كـ«شرط لأيّ تسوية إقليميّة»؛ والحديث عن تقدّم نحو تسوية إقليميّة من دون تنازلات إسرائيليّة بات مستحيلاً اليوم. كما أدّت هذه الحرب إلى تزايد الدعم العالميّ للقضيّة الفلسطينيّة، بحيث أعلنت دول عدّة الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة. وعلى الرغم من مرور عام على حرب الإبادة الجماعيّة التي ارتكبها الكيان المجرم على قطاع غزة، لا تزال حكومة حماس هي الحاكم في القطاع، ولا يزال قادتها، كيحيى السنوار ومحمد الضيف، يعملون ويحتجزون عشرات الأسرى الإسرائيليين ممّن هم على قيد الحياة حتّى تاريخ كتابة هذا المقال. وهذا على الأقل مؤشر يُسرّع العدّ التنازليّ لزوال الكيان.