كنت أفكر مع نفسي: إلى أي مدى يمكن أن تصل الخبائث والرذائل لكي تقوم جماعة وحشية باستهداف الأبرياء والأطفال والنساء وهم آمنون في حياتهم اليومية، ثم يتم تفجير أجهزة التواصل بهم، ليستشهد العشرات، ويجرح المئات منهم، ولكن هذا لم يكن مستبعدًا عن كيان احتلّ قبل نحو 80 عامًا أرض فلسطين، واستخدم حتى اليوم كل الطرائق الخبيثة ليبقى غدّة سرطانية في العالم، وليس المنطقة فحسب.

صباحًا، في طريقي إلى إحدى المستشفيات بطهران، التي تحتضن الجرحى اللبنانيين إثر عملية تفجير البيجرات الإرهابية الصهيونية، وعندما كانت شمس طهران تقترب من منتصف السماء، قلت لنفسي: ماذا تتوقع أن ترى من أصحاب حقٍّ جُرحوا بإصابات استهدفت معظمهم بأعينهم وأيديهم، كمولاهم العباس بن علي (ع)؟

وبينما كنت غارقًا في أفكاري، وصلنا إلى المشفى. وعندما نزلت من السيارة؛ وصل الزائر الكريم نجل قائد الثورة الاسلامية الإمام السيد علي الخامنئي، حجّة الإسلام السيد مسعود الخامنئي، والذي – فور وصوله – ذهب إلى الأقسام التي كان يرقد فيها الجرحى الأعزاء، حيث كان الأطباء والممرضون والمساعدون يدورون حولهم، كالفراشات عندما تدور حول الورود.

فقلت في نفسي: ما سرُّ ذلك؟ وعندما دخل السيد إلى غرفة أول جريح، قال له أن سماحة السيد القائد يتابع ببالغ الاهتمام وضعكم العلاجي والصحي، وأرسلني لكي نطمئن عليكم، وإذا كان ثمة نقص أو أمر أنتم بحاجته، نحن نوفّره لكم.

فقال الجريح: الحمد لله… ثم سأل عن السيد القائد، وقال: أسأله الدعاء، وأملي أن أزوره بعد أن أخرج من المشفى، ثم كرر قوله مرة أخرى: الحمد لله.

كانت هذه الكلمة المشتركة التي ينطقها كل الجرحى الذين زارهم ممثل السيد القائد، وكان الصبر جليًّا في وجوه هؤلاء الشباب، وبعضهم من الرعيل الأول..

قدّم حجة الإسلام السيد مسعود الخامنئي هدية من الإمام القائد للجرحى، من ضمنها كوفيته، ونسخة من القرآن الكريم كتبَ سماحته في صفحتها الأولى رسالة خاصة للجرحى:

بسم الله الرحمن الرحيم

أعزائي!

لقد خرجتم من الامتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس. صبركم واستقامتكم من أسمى أنواع الجهاد، أسال الله المتعالي لكم الشفاء والعافية والعاقبة الحسنة.

السيد علي الخامنئي

30 أيلول/سبتمبر 2024

فمن كان منهم يرى بعينه، يقرأ الرسالة بنفسه، ومن فقد عينه، كان والده أو والدته أو زوجته أو أحد أبنائه أو أحد مرافقيه يقرأ رسالة القائد على مسامعه، وفي بعض الأحيان كنت أقرأ الرسالة بنفسي للجريح العزيز، فتنهمر الدموع من أعينهم عندما كانوا يقرؤون أو يستمعون لنص رسالة قائدهم.

عندما عَلِمَ بعض الجرحى أن نجل السيد القائد يزورهم ليبلغ رسالته لهم، كانوا يقولون: نأمل أن نحصل على كوفيته، وفوجئوا بأن الإمام القائد كان يعرف ما يريده أبناؤه المضحون، فأرسل لهم الكوفية، وكما قلت سابقًا، جميعهم يشتركون في رغبة أخرى: نتطلع إلى لقاء قائدنا…

شاب جريح يبلغ من العمر 20 عامًا، وبرفقته خطيبته، عندما سأله حجة الإسلام السيد مسعود الخامنئي عن صحته، قال: الحمد لله، نحن فداء للسيد القائد، نُقدّم أرواحنا من أجله.

أحد الجرحى الآخرين الذي كان قد عقد قرانه الشرعي مع زوجته قبل يومين من ذهابه لرحلة العلاج الى إيران، وهو في المشفى، ومصاب بعينه ويديه، طلب أن يهديه الإمام الخامنئي نسخة من القرآن الكريم الذي يوقّع السيد القائد صفحته الأولى ويهديه للشباب الذين يتزوجون حديثًا، وهذا ما طلبه أيضًا عدد آخر من الجرحى الشباب.

جريح آخر، وهو فاقد عينيه، بعد أن وجّه تحيته للسيد القائد، رفع قبضته مرددًا شعار (لبّيك يا خامنئي) ثلاث مرات…

وقد تكررت هذه المشاهد العاطفية تجاه القائد مرات عديدة خلال الزيارة، وخلقت مشاهد رائعة من التفاني والعشق..

عندما كان السيد مسعود يقول للجرحى: تقبّل الله منكم هذه التضحيات، كانوا يقولون: هذا أبسط ما نستطيع أن نقدمه في سبيل هدفنا…

ولم يكن ذكر الشهيد، سماحة السيد حسن نصرالله، غائبًا عن الزيارة، إذ قال أحد الجرحى: أرواحنا فداء للإمام الخامنئي والشهيد السيد حسن نصرالله، وعندما نعود سنستمر على هذه المسيرة والنهج.

كانت الأمهات والزوجات والأبناء الذين يرافقون جرحاهم يعكسون من خلال كلامهم الصبر والإباء.

مشاهد لا يمكن وصفها..

كان الأطباء يقولون: نحن – أطباء وممرضين وعاملين في المستشفى – نعدّ ما نقوم به هنا واجبنا، ونعتز بخدمة هؤلاء الجرحى الأعزاء. وقد شكرهم حجة الإسلام السيد مسعود الخامنئي على هذه الجهود. وكذلك الجرحى الذين كانوا يبدون ارتياحهم تجاه سير عملية العلاج، فقال لهم السيد مسعود: هذا واجبنا في الجمهورية الاسلامية.

أحد الجرحى قال لنجل السيد القائد: أنا فقدت إحدى عينيّ في مواجهة العدو الصهيوني في حرب تموز، واليوم جُرحت يداي، وأنا في هذا الطريق أقدّم كل حياتي…

المعنويات كانت مرتفعة جدًّا، وهم الذين كانوا يمنحوننا المعنويات…

أحد الجرحى قال للسيد مسعود: سيّدنا، نحن مستمرون على نهج المقاومة، وأرواحنا فداء للقائد، هذه وصية الشهيد السيد حسن نصرالله، ونحن معكم.

لم نرَ أحدًا من الجرحى يقول أنه منزعج من جراحه، بل كان الجميع يرددون كلمة (الحمد لله)، وعندما كان السيد يسألهم عن ألمهم، كانوا يقولون: نحن لا نشعر بالألم، وخاصة أن الإمام الخامنئي يسأل عنا، وسمعنا منكم رسالته وتحياته…

شاب جريح كان يقول: أنا جُرحت في تلك العملية الإرهابية الغادرة، وكان موعد حفل زواجي بعد يومين… ولكن كلّه خير.

جريح آخر قال أن كوفية السيد القائد هي عنوان الجهاد الشرف والعزة، ولذلك نحن نرتدي هذا الوسام.

أحد الجرحى قال: عندما أعود الى لبنان؛ سأرتدي هذه الكوفية في جبهة القتال ضد العدو الصهيوني المجرم.

وجريح شاب آخر، وهو مصاب في عينيه ويديه وإحدى قدميه، ردد شعار (سلام فرمانده)، وقال: نحن مع قائدنا، وهذه الجراح لن تؤثر على عزيمتنا..

ومعظم الجرحى كانوا يقولون: نحن أبناء مدرسة الإمام الحسين (ع)، وأخيه أبي الفضل العباس (ع). أحدهم قال: على جبين كل الجرحى كُتب عابس وحبيب وجون وأسماء أصحاب سيد الشهداء (ع)، ونحن على هذا النهج مستمرون، واليوم نحن أصحاب الإمام الخامنئي في جبهة الحق، في مواجهة الباطل المتمثل بالشيطان الأكبر أمريكا والعدو الصهيوني.

جال حجة الإسلام السيد مسعود الخامنئي على كل مَن كان في تلك المستشفى، في زيارة وصلت إلى أكثر من ثلاث ساعات، وأبلغ تحيات الإمام الخامنئي، ومتابعته لوضع جميع الجرحى…

ما شاهدته اليوم هو صورة تعكس عزم شعب المقاومة وصموده.

مشاهدٌ من الإباء والصمود لا يستطيع المرء أن يصفها بالقلم والصورة، فهي كانت أعظم من كتاباتي، وعنوانها الصبر والمقاومة والعزة، واستدامة نهج المقاومة حتى تحرير فلسطين، من البحر إلى النهر.