يمرّ الكيان الصهيوني، الذي كان يرى نفسه منتصرًا في الحرب عبر الاغتيالات الوحشية لقادة المقاومة، بأوضاع سيئة الآن، ويعاني من انحسار في قوته، حيث بات محاصرًا. إضافة إلى ذلك، فإنهم يرون أن «اتفاق أبراهام» أصبح بعيد المنال تمامًا، كما أنهم يواجهون جبهة مقاومة أصبحت أكثر اتّحادًا وشجاعة من أي وقت مضى.

أولئك الذين ظنوا أنهم باغتيال إسماعيل هنية في طهران، والسيد حسن نصرالله في بيروت، سيقطعون شريان العلاقة الذي يربط المقاومة بطهران، بدؤوا يرعدون ويبرقون ويتحدثون عن شرق أوسط جديد ونظام عالمي جديد.

تولّت الولايات المتحدة، التي كانت تؤدّي دورًا خلف الكواليس لدعم الصهاينة، دور السمسار في المفاوضات، وقد حاولت تأخير رد جبهة المقاومة عبر وعود زائفة. بلغ بهم الوهم بأنّهم ظنّوا جبهة المقاومة قد أصبحت مرتبكة، وصدّقوا ذلك بشكل جدّي، مما دفعهم للتحدث عن عمليات اغتيال أكبر، وفتح جبهات جديدة.

لعب الصهاينة جميع أوراقهم، كما أنّهم كشفوا من خلال تفجيرات أجهزة البيجر عمليّتهم التي استغرقت عدّة أعوام من التخطيط، ورمت إلى ارتكاب مجزرة جماعيّة. كانت الهجمات غير المسبوقة والوحشية التي استهدفت قادة المقاومة جزءًا من هذه السلوكيّات الإجراميّة أيضًا، فقد اعتقدوا أن بإمكانهم حسم الأمور بشكل نهائي بهذا النحو، وراحوا يبعثون رسائل متتالية إلى دول المنطقة بأن الحرب والدمار هو مصير مَن يحاولون اتخاذ قرارات خارجة عن إرادتهم.

كل هذا استمرّ حتى انطلاق عملية «الوعد الصادق 2»، حيث أطلقت الصواريخ الإيرانية شرارة حقبة جديدة في المنطقة. وأدّت سلسلة التحركات اللاحقة لإيران إلى انهيار الحلم الدرامي للصهاينة، ليتحول إلى مأساة من العجز والارتباك على أرض الواقع.

الصهاينة خسروا زمام الأمور في عدة مشاهد استعرضت فيها إيران قوّتها، وباتت الآن الساحة الوحيدة التي يستعرضون فيها قوتهم، هي ساحة الاغتيالات العشوائية والدعايات التي لا أساس لها. ستفقد هذه الأساليب تأثيرها وقيمتها في القريب العاجل، لينكشف بعدها عجزهم أمام العالم.

 سوف نستعرض في هذا التقرير بعض الإجراءات التي اتخذتها إيران ردًّا على العنف المفرط الذي يمارسه الكيان الصهيوني.

المشهد الأوّل: الوعد الصّادق

في وقت لم يكن هناك أي وسيلة اتصال صادقة بين الطرفين في هذه المعركة، تولّت الصواريخ الإيرانية مهمة إيصال رسالة واضحة إلى تل أبيب نفسها: «لقد ولّى زمنُ اضرِب واهرب!». هذه الرسالة القديمة، التي قد لا تكون اتّضحت كما ينبغي بعد للزّعماء الإرهابيين، تم تجسيدها من خلال قصف شامل لجميع الأراضي المحتلة، مما جعل الصهاينة يدركون تمامًا أن يد الجمهورية الإسلامية الإيرانية تطال كلّ نقطة من الأراضي المحتلّة.

لم يعد الصهاينة قلقين الآن بشأن الصواريخ الإيرانية فقط، بل إن العرض الضعيف واليائس لمنظومتهم الدفاعية أرسل رسالة للآخرين بأن بروباغندا عدم إمكانيّة اختراق سماء الكيان الصهيوني ليست سوى مناورة دعائية. يخشى الصهاينة الآن الصواريخ والطائرات المسيّرة، اليمنية واللبنانية والعراقية، أكثر من أي وقت مضى، وليس من المستغرب والمستبعد أن تعيد دولة أخرى قريبًا إنارة سمائهم.

كانت رسالة إيران واضحة: إضافةً إلى سيادة أراضيها التي تُعد خطًّا أحمر، فإن اغتيال ضيف إيران، إسماعيل هنية، كان تصرفًا لا يُغتفر أقدم عليه الصهاينة، وقد أعلنت الجمهورية الإسلامية أنها تعدّ الانتقام لدم ضيفها واجبًا وفرضًا عليها، وكلما ازداد العدو صلافةً ووقاحة، عزّزت الجمهورية الإسلامية جديّتها وصلابتها في تعاملها معه. بالإضافة إلى ذلك، مارست الجبهة الموحدة للمقاومة ما يكفي من الصبر الاستراتيجي، ولم ترغب إيران في منح الصهاينة فرصة جديدة لارتكاب الأخطاء. بات الصهاينة مدركين الآن أنهم بهجومهم على أي شبر من أراضي المقاومة، يواجهون هذه الأرض بأكملها.

ومع ذلك، لم تكن هذه نهاية اللعبة، حيث لجأ الصهاينة الذين فقدوا اليد العليا في الميدان إلى ممارسة لعبة الضغط النفسي، وهو أسلوب قذر يتقنونه أكثر من القتال، حيث هددوا بتوجيه الضربات إلى قلب إيران، وارتكاب عمليّات الاغتيال فيها. زعموا أنهم يستهدفون طهران، وأن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة، مؤكدين أن يدهم الطويلة تصل إلى أي نقطة في الشرق الأوسط، لكن هذه التهديدات كان لها نتائج عكسية.

المشهد الثاني: جُمعة النّصر

تعرّضت هيبة الكيان الصهيوني الغاصب لضربة كبيرة عندما أقيمت صلاة الجمعة في 4 أكتوبر في طهران، مع الإعلان عنها مسبقًا، وبحضور جميع قادة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وبإمامة قائد الثورة الإسلاميّة، في باحة مُصلّى الإمام الخميني.

كان الصهاينة يعتقدون أن الجمهورية الإسلامية ستتوخّى الحذر، وستأخذ تهديداتهم على محمل الجدّ، ولو من أجل الحفاظ على المصلحة، إلا أنهم واجهوا قيادة مستعدة للوقوف وسط الميدان، ودَعَتْ جميع قادة النظام إلى الحضور، وخرج الشعب أيضًا خلف قائده، مقتديًا به.

يمكن الادّعاء بجرأة أنّ واحدة من أبرز المشاهد في المنطقة، منذ السابع من أكتوبر وحتّى اليوم، كانت صلاة جُمعة النّصر بإمامة قائد الثورة الإسلاميّة، وهي كانت الحدث الذي وجّه صدمةً أكبر من التي خلّفتها صواريخ الوعد الصادق في كيان الصهاينة، وأثبتت أنّ الكيان الصهيوني ليس عاجزًا عن الدّفاع عن نفسه فحسب، بل إنّه ليس ما يدّعيه على مستوى الهجوم أيضًا، وتكبّدت استراتيجيّة الترهيب التي انتهجها الصهاينة هزيمةً كُبرى ونكراء في هذا اليوم.

كانت الضربة الثانية التي وجّهتها الجمهوريّة الإسلاميّة بنحوٍ جعل الصهاينة يدركون، عند استفاقتهم من صدمتهم الأولى، أنّ مَن هدّدوهم لم يكتفوا بعدم الاختباء، بل إنّهم يقيمون في العلن وفي ساحة مفتوحة مراسم تأبينٍ لسيّد شهداء المقاومة، ويُلقي قائدهم خُطبةً مطوّلة، ويؤدّي التعقيبات المستحبّة بعد الصّلاة أيضًا، ثمّ يُتبع – خلافًا لعادته – صلاة الجمعة بصلاة العصر، ويُطيل بقاءه في المصلّى حتّى يعلم الجميع أنّ الصهاينة أعجز من أن يديروا الأحداث في هذا الميدان.

نقل خوضُ الإمام الخامنئي الميدان هذه الجرأة والشجاعة والثقة إلى جميع المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة، وكانت الرسالة واضحة: الآن، بما أنّ القائد حاضرٌ في وسط الميدان، فلن يكون هناك ملاذٌ آمن في أيّ مكان.

المشهد الثالث: الدبلوماسيّة في الميدان

كان عبّاس عراقتشي أوّل من نقل خبر صلابة جمهوريّة إيران الإسلاميّة، بقيادة السيّد عليّ الخامنئي، وأكّد تماسكها وتلاحمها!

بالتزامن مع توقيت صلاة الجمعة تقريبًا، والتي أقيمت بإمامة الإمام الخامنئي في مصلّى طهران، كان وزير الخارجيّة يحلّق نحو لبنان، بينما تعرّض محيط مطار بيروت قبل ساعات قليلة من هبوط وزير خارجيّة جمهوريّة إيران الإسلاميّة للقصف الإسرائيلي.

عندما وطئت قدما رجل الدبلوماسيّة الأوّل لإيران أرض بيروت ودمشق، كان الكيان الصهيوني في أسوأ حالاته من حيث الموقع والسمعة، وقد شعر بحاجة ماسّة إلى اتخاذ إجراء انتقامي يستعيد من خلاله قوّة ردعه بعد عمليّة «الوعد الصّادق 2».

وقبل أيّامٍ قليلة من زيارة رئيس الجهاز الدبلوماسي الخارجي الإيراني بيروت، زار رئيس جمهوريّة إيران، مسعود بزشكيان، قطر، ورافقته طائرات فانتوم من أجل الحماية، وبذلك نقل للعالم رسالة قوّة الجمهوريّة الإسلاميّة، كما أكّد في حواراته المقتدرة مع مختلف وسائل الإعلام العالميّة على وقوف إيران بكلّ وجودها وبشكل كامل إلى جانب جبهة المقاومة، والعمل معها على إفشال مخطّطات الصهاينة للشرق الأوسط الجديد.

وزار وزير خارجيّة إيران لبنان وسوريا أيضًا حتى يتابع الدبلوماسيّة من أرض الميدان، ويخبر العالم أجمع مَن الذي يملك اليد العليا.

أراد الكيان الصهيوني، الذي لا رادع له عن الاعتداء على أيّ بلد، أن يستهدف عراقتشي في لبنان، لكنّه كان في منتهى العجز عن فعل ذلك!

هم أدركوا أنّ الخطوة التالية للجمهوريّة الإسلاميّة ستُهدّد ماهيّتهم الوجوديّة، ولو أنّهم شكّوا في حساباتهم هذه، لم يكونوا ليتردّدوا لحظةً واحدةً في اغتيال عراقتشي.

المشهد الرابع: استعراضُ القوّة

فلتتذكّروا كيف كانت زيارات جميع رؤساء الولايات المتّحدة إلى قواعدهم العسكريّة في مختلف الدول. شرحُ ذلك بسيطٌ للغاية: في وسط الظلام، بسرعة، دون إعلانٍ مُسبق، وفي ظلّ ظروف أمنيّة خاصّة، ودون إعلام البلد المضيف، أو يُفضّل أن نُعبّر عنه بالبلد المحتلّ!

طبعًا، لا يقتصر هذا على رؤساء الولايات المتحدة الأمريكيّة، فالعديد من قادة الدول الغربيّة، وحتّى مَن هم بمستوى الوزراء أو القادة العسكريّين، يتصرّفون بهذا النحو.

لكن طريقة تعامل قادة الجمهوريّة الإسلاميّة على النقيض من هذه المخاوف بشكل كامل، فرئيس مجلس الشورى الإسلامي، بصفته أحد أركان الجمهوريّة الإسلاميّة، قاد شخصيًّا يوم السّبت (12/10/2024)، في خطوة جريئة، طائرة الإيرباس التابعة للجمهوريّة الإسلاميّة، واتّجه بها إلى بيروت، بينما ألغت غالبيّة الشركات الجويّة في العالم رحلاتها إلى لبنان، خشيةً من التعرّض للاستهداف من قبل أكثر كيانٍ متهوّرٍ في العالم، ونَقَلَ شخصيًّا رسالة دعم الجمهوريّة الإسلاميّة للبنان.

خلال هذه الزيارة، زار محمّد باقر قاليباف بعض المناطق التي تعرّضت لقصفٍ وحشي من الكيان الصهيوني، وتحدّث إلى الناس وجهًا لوجه، أولئك الناس الذين حاولت وسائل الإعلام المعادية إيهامهم بأنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تخلّت عنهم، وصافحهم بصفته أحد أرفع المسؤولين الإيرانيّين في قلب الخطر.

لم يكن السلوك الشجاع لأحد كبار المسؤولين الإيرانيّين مجرّد رسالةٍ للكيان الصهيوني، بل كان رسالةً للعالم كلّه، وأثبت هذا السلوك أنّ إيران تتمتّع بمستوى من الرّدع يخوّل رئيس برلمانها أن يتجوّل على مقربةٍ من الصهاينة، دون أيّ اكتراث وخوفٍ من إقدامهم على أيّ خطوة.

لم يبعث استعراضُ القوّة هذا لأحد المسؤولين الإيرانيّين برسالة الاقتدار إلى الصهاينة وحلفائهم فحسب، بل أرسل رسالة الشجاعة هذه إلى سائر دول محور المقاومة، والأحرار حول العالم.

والآن، بات الفلسطينيّون واللبنانيّون يعلمون مَن عدوّهم، وما هو مستواه، بينما تخلّى عنهم العالم كلّه خوفًا من النيران الغزيرة للكيان الصهيوني، ويعرفون جيّدًا مَن البلد الذي يقف إلى جانبهم، وفي أيّ مستوى يساندهم.