Search
Close this search box.

لَمْ يَعْدَمِ النَّصْرَ مَنِ انْتَصَرَ بِالصَّبْرِ

لَمْ يَعْدَمِ النَّصْرَ مَنِ انْتَصَرَ بِالصَّبْرِ

عندما تمرُّ الجماعة أو الوطن أو الأمة بفترات من التحديات العظيمة والمصاعب القاسية لا يمكن الثبات أمامها ولا تجاوزها إلا برصيد وافر من أمرين اثنين وهما “الصبر” و”الیقین”.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَمْ يَعْدَمِ النَّصْرَ مَنِ انْتَصَرَ بِالصَّبْرِ”.
فيما سبق من هذه السلسة الكريمة (جواهر عَلَوية) تحدثت أكثر من مرة عن قيمة الصبر في حياة الإنسان، وذكرتُ أنه واحد من مقوِّمات الحياة أي حياة، بل واحد من مقوِمات أي مخلوق وأوضح ما يكون في المخلوقات النامية نباتاً كانت أم حيواناً أم أم إنساناً، فلا شيء من هذه يمكن أن يجتاز أطوار تكامله إلا بالصبر، ولا شيء منها يمكن أن يتخطَّى ما يُعيق حركته ونُمُوَّه إلا بالصبر، ولا شيء منها يمكن أن يبلغ غايته إلا بالصبر.
لكن الإنسان أكثر من يحتاج إلى الصبر من بين بقية المخلوقات، لأن صبر المخلوقات أمر تكويني كما في النبات، أو غريزي كما عند الحيوان، أما عند الإنسان فهو أمر ارادي اختياري يختاره الإنسان بإرادته ويُدرك ضرورته كما يُدرك آثاره.ولذلك يُدرِّب نفسه عليه أو تُدرِّبه الأزمات والأيام.

في مقالة اليوم سنتكلم عن الصبر باعتباره واحداً من أهم عوامل النصر، كما جاء في جوهرة الإمام (عليه السلام): “لَمْ يَعْدَمِ النَّصْرَ مَنِ انْتَصَرَ بِالصَّبْرِ” والإمام (ع) لا يسوق الكلام جزافاً، بل يكشف عن معادلة من معادلات الصراع، وتشهد لها التجربة الإنسانية الممتدة مذ نشبت أول معركة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والشيطان، لقد كان الصبر دائماً من أهم عوامل الانتصار في الحروب والصراعات وحتى في محاربة الإنسان شياطين النفس وترويضها وتهذيب أخلاقها.

ما معنى الانتصار بالصبر؟

عندما تمرُّ الجماعة أو الوطن أو الأمة بفترات من التحديات العظيمة والمصاعب القاسية لا يمكن الثبات أمامها ولا تجاوزها إلا برصيد وافر من أمرين اثنين:

أولاً: الصبر العملي لا النظري في مواجهتها، وهو ما يعبر عنه بالصمود الواعي الذي يعلم معه المرء أن المواجهة تتطلَّب تضحيات جسيمة لكن الصبر عليها وتَحَمُل كلفتها يُتيحان النصر على الأعداء.

لا ريب أن الصبر يشتمل على معاني الربط على القلب، ورباطة الجاش، في ساعات المِحَن، والثبات أمام زحف العدو، والتحدِي، وتحمُّل تكاليف المواجهة، وعدم التأثُّر بحملات التشوية، والتنقيص، والتيئيس، والتخذيل، وإرجاف المُرجفين، وخوف الخائفين، واستعجال المستعجلين.
إن الشخص الذي يربي نفسه على الصبر فلن تخذله أبداً، وكذا الجماعة التي يتحلَّى أفرادها بهذه الفضيلة لا يمكن أن تُصاب بالوَهَن والضَّعفِ وفتور الهِمَّة، مَهما عَلَت التضحيات، وسيأتيها النصر عاجلاً أو آجلاً. والجماعة التي تصبر على مرارة الحرب والفَقد وتقدِّم التضحيات لله تعالى لا يمكن أن يخذلها الله، بل يمدّها بمزيد من الصبر والثبات، ويربط على قلوب أفرادها، ويهيئ لها الأسباب، ويجعل لها من أمرها فرَجاً ومَخرَجاً.

العدو يريد أن يُخضعك، يريد أن تئن وتتعب، يريدك أن تستعظم كلفة عدوانه عليك، يريدك أن تخشى همجيته وسطوته كي ينتهي بك الحال إلى رفع راية الاستسلام والخضوع لإرادته، لكنك إذا صبرت ستهزمه هو، ستكسر سيفه هو، ستنال من عزيمته وإرادته، إن صبرك يعني أن تتحطَّم آماله بالنيل منك، وبهذا يكون الصبر من أعظم الوسائل التي تقاتل بها عدُوَّك، والوسائل المادية وإن كانت مطلوبة وضرورية في حربك مع عدوك، لكن الصبر كذخيرة معنوية لا تقل أهمية عنها، فإذا تفوَّق عليك العدو بآلته العسكرية فعليك أن تتفوَّق عليه بالصبر أيضاً، لأن الهزيمة لا تكون إلا من نصيب من يئنُّ أولاً.

والصبر لا يكون إلا على المتاعب والمصاعب والكُلَف العالية، الصبر لا يكون إلا على التضحيات، وفي الأزمات والنكبات، ولا يكون صبر وأنت في حال الرخاء، لا يكون صبر وأنت مطمئن البال، لا يكون صبر وأنت ترفل بأثواب النعم والعافية.

وهنا أُلفِتُ النظر لأمر بالغ الأهمية وهو أن الصبر لا تقتصر آثاره على الانتصار على العدو، ومواجهة مصاعب الحياة، بل له أثر في غاية الأهمية يرتبط باعتقاد المرء بوحدانية الله وتدبيره للكون علىاساس النظام الأحسن، وأن وجهة أفعال الله تعالى هي في نفع المجموع وليس في نفع الجميع، فأحيانا تكون مصلحة الشخص المتضرر بالحادثة المعينة منسجمة مع مصلحة الجماعة، وأحيانا لا تكون منسجمة معها، فالصابر يضحّي بمصلحته الذاتية في سبيل المصلحة العامة، وهذا ما يحدث الآن، فمن يستشهد، أو يُصاب بولده أو واحد من أقاربه أو يُهدم داره أو متجره يتضرر شخصيا بلا شك، ولكنه يصبر على ذلك حفظا لمصلحة المجموع.

ثانياً: اليقين العميق بالقدرة على تخطي الصعوبات والانتصار عليها، فإن اليقين هو الذي يربط على القلب ويمنحه القوة على الثبات، اليقين هو الثقة الكاملة في أحقية ما هو عليه المرء والجماعة وحتمية انتصاره في نهاية المطاف، وأن الله ناصره لا محالة، ولا يظهر يقين الفرد والجماعة إلا في الأزمات وعند غَلَبَة الشُّبهات، والجماعة التي تتسلَّح به لا يزيدها التحدي الكبير إلا عزيمة وإصراراً وثباتاً بهذين العاملين وسواهما من عوامل القوة المادية يمكن للجماعة أو الأمة أن تحقِّق أهدافها وأن تنتصر على أعدائها.

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل