Search
Close this search box.

لم تُنشر أبداً

لم تُنشر أبداً

“الله أكبر.. لقد دمّرت المقاومة الدّبابات الإسرائيليّة.. أسرعوا لتشاهدوا”، صرخ رجل كان يتابع الأخبار، وهو ينظر إلى الصحافيّة المقهورة. ركض الأطفال وتبعهم أهلهم إلى ناحية التلفاز.

ارتابت عيون بعض النازحين من جنوب لبنان، من الصحافيّة الأجنبيّة التي دخلت للتوّ إلى المدرسة التي أقاموا فيها في بيروت.

“خير يا طير”، همس شيخ عجوز، دلّت شيبته على أنّه عجن الحياة وخبزها. بدأت بالتقاط الصور. تجمّع الأطفال لمشهد وجدوا فيه بعض الترفيه الذي فقدوه منذ بداية الحرب. ألا يكفيهم أنّهم يعيشون في مدرسة ليلاً ونهاراً؟ أخرجت من جيبها آلة التسجيل: “هل تخافون من الحرب يا أطفال؟”.

بدت لهجتها العربية ثقيلة، ولكن يبدو أنّها بذلت جهداً في تعلّمها.

“لا لسنا خائفين”، هتف بعض الصّبية المتحمّسين.

لفتت نظرها طفلة واقفة في الخلف، لم تنس أن تهرّب معها دميتها المفضّلة من تحت القصف، “وماذا عنك؟ ألست خائفة؟”.

حرّكت الطفلة رأسها للأعلى.

“لكن يجب أن تخافوا فهذه حرب مخيفة، ويجب أن تقولوا لأهلكم أنكم لا تريدون من يسبّب لكم الحرب بينكم. أليس كذلك؟”، سألت وهي تنظر مجدداً إلى الطفلة، لعلّها تحثّها على موافقتها ولو بهزّة رأس.

“قالت لك إنها ليست خائفة.. ألم تسمعي؟”، جاء صوت والدة الطفلة من خلف الصحافية حازماً وغاضباً. التفتت الصحافيّة، ابتسمت للمرأة ثمّ سألت بدهاء: “ألا تخافين على زوجك وأطفالك وابنتك الجميلة هذه؟”.

“نعم، بالطبع أخاف عليهم”

“هذا ما أقوله بالتحديد. كلّنا نخاف الحرب ونرفضها. من برأيك سبب هذه الحرب؟”

“هل أنت حقّاً صحافيّة؟”، فاجأها صوت من خلفها أيضاً. التفتت فرأت شاباً قوياً عقد ساعديه الضخمين على صدره، فظهر فوق عضلاته وشم لسيف بشفرتين.

“بالطبع أنا صحافيّة من جريدة التايــــــ….”

“لا يهمني الجريدة. ألست ذكية كفاية لتعلمي من سبب الحرب. أنظري هذه طائرة جديدة في السّماء”، أشار بإصبعه إلى خيط دخان خلّفته طائرة حربيّة إسرائيليّة لها هدير مدوّ. ابتسمت الصحافيّة محاولةً إخفاء انزعاجها.

“أنتم مجانين.. وماذا ستفعلون عندما ينفد سلاح محاربيكم. لماذا لا تقولون لهم أن يستسلموا لتعيشوا؟”

“عندها سنقاتل العدوّ بهذه..”، التفتت من جديد وبدا أن بصرها زاغ، ارتسمت هرمونات التوتر على وجهها أكثر من حمرتها ومكياجها. شعرت أنّها محاصرة. هذه المرة كان الشيخ المهيب يحمل عصاه – التي يتكئ عليها – بيد ويضرب بها على اليد الأخرى.

“ستقاتلون بالعصا؟” قهقهت الصحافية بمكر، “صدقوني الصواريخ لا تفعل شيئاً.. فهل ستفعل العصا؟”

“الله أكبر.. لقد دمّرت المقاومة الدّبابات الإسرائيليّة.. أسرعوا لتشاهدوا”، صرخ رجل كان يتابع الأخبار، وهو ينظر إلى الصحافيّة المقهورة. ركض الأطفال وتبعهم أهلهم إلى ناحية التلفاز.

وضعت الصحافيّة آلة التّسجيل في جيبها. احتارت ماذا تفعل. أخرجت الكاميرا مجدداً لكي تخفي فشل مهمتها.

“صورة أخيرة وهم يشاهدون التلفاز. سأكتب تحتها أي تعليق”، حدّثت نفسها.

“لحظة واحدة”، أربكها صوت العجوز يصرخ عليها. شاهدته يقف وسط الجمع، ويرفع عصاه إلى الأعلى ممسكاً بها من وسطها، وإشارة النّصر بيده الأخرى. فقلّده الكبار والصغار.

ضغطت الصحافيّة على زر التّصوير، والتقطت صورة واضحة ونقية ومتقنة وصادقة، لكنّها لم تنشر أبداً.. في صحيفتها.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل