سمية علي
“أتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع أن أكافئ فيه الحاج نبيل”، قال الشهيد السيد حسن نصرالله لأحد المقربين منه. نُقل حب السيد وحفظه لجميل الأيام بينه وبين الشهيد ابراهيم جزيني (الحاج نبيل) إلى الأخير، “ففاضت نفسه فرحاً وطمأنينة”. فرحاً بأن السيد يبادله المشاعر نفسها، وطمأنينة لأنه كان دوماً مسكوناً بهاجس أن تكون الاجراءات التي يحيط بها سيد المقاومة تضايق سماحته، وهو المسؤول عن مهمة حفظ أمنه منذ عام 1994، المهمة الثقيلة والعظيمة التي أوكله بها من أسماه “نبيلاً”: القائد الجهادي الشهيد عماد مغنية.
منذ ذلك اليوم، باتت هذه الكلمات تحضر في وعي الحاج نبيل، أو يذكّره بها أحد أقرب المقربين جداً منه، الذي يخبرنا أنه كان يفعل ذلك كلما عاد “نبيل” حزيناً يشكو أن الشهيد السيد نصرالله “ربما ليس راضياً منه لسبب ما”، أو عندما اقتضت الظروف الأمنية الصعبة التي سبقت بدء العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان أن يحيط الشهيد جزيني السيد باجراءات استثنائية فرضت عليه معارضة رغبة سماحته الخروج قليلاً بين الناس، كما كان يفعل من فترة لأخرى، وهو الأمر الذي كان سماحته تواقاً له دائماً.
هنا نسأل: ما الذي يجمع الرجلين؟ رأينا في اللقطات الصامتة والمتحركة أن “نبيل” مشى دوماً مع السيد نصرالله كظله، سنين طويلة، عُجن به، لقد شابا معاً، وكم مرّ عليهما من أحداث وتفاصيل على طريق ذات الشوكة بقيت في قلب وعقل جزيني حصراً، حيث الكتمان الدائم والثابت الذي رسم أغلب تفاصيل حياته. وضع الشهيد “نبيل” حاجزاً بين عمله وأسرته من الممنوع بتاتاً خرقه، حتى أن زوجته وأبناءه لم يلتقوا الأمين العام بشكل شخصي، حسبما يؤكد أحد المقربين.
نعود ونسأل: ما الذي جمعهما؟ هل هي علاقة قائد بمسؤول أمنه؟ تصبح “نعم” إجابة بديهية لهذا السؤال في حالات عدة، لكن في حالة “القائد الأممي ذي الطلة العَلوية”، وهو الوصف الذي كان يهزّ الحاج جزيني رأسه موافقاً على دقته، وعندما يكون “الحارس” قد وهب العمر حباً وعشقاً وطواعية للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، “من منطلق الاعتقاد الكامل بـ الولاية”، كما يؤكد المصدر نفسه، في هذه الحالة فإن علاقتهما تتخطى هذا الإطار بما هو أبعد وأسمى.
الولاية
“سكّني روع النفوس، وامسحي فوق الرؤوس يا زهراء يا زهراء… يا جناحاً رفّ فينا حاملاً دفء الأمل، ريشه يقطر حبّاً وكلاماً مرتجل”.
من قصيدة “سكني روع النفوس” للشيخ بشار العالي التي قرأها الرادود حسين الأكرف في ليالي استشهاد السيدة الزهراء (ع) في مسجد الزهراء بمدينة حمد بالبحرين عام 1995
كيف كان يصف الحاج نبيل السيد حسن؟ نسأل، فيأتي الجواب ليذكّرنا بالكتمان، “السمة الدائمة التي شكّلت شخصية جزيني منذ ارتباطه بالسيد والتي عمل على صقلها، مع مهارات أخرى دأب على تنميتها بشكل دائم من خلال الخوض في عالم الأمن ودراسة خباياه وكل ما يطرأ عليه، حتى امتلك القدرة على مسح تفاصيل الأمكنة بعين ثاقبة وسرعة قياسية جداً”.
لكن شغفه بسيد المقاومة، الذي كان يؤكد دوماً أنه “نابع من الذوبان في الولاية، إنطلاقاً مما يمثل الأمين العام ضمن هذا المعتقد”، هذا الحب كان يرتسم سريعاً على ملامح الحاج نبيل، أكد لنا أحد المقربين إليه، “يحزن ويتألم عند مشاهدة عوائل الشهداء ومحبي المقاومة يرددون “فدا السيد”، لأنه كان يدرك مدى شدة تأثر السيد حسن لحظة سماع هذه الكلمات. وكان يعود إلى منزله فرحاً، فيدرك المقربون أن السيد لا بد مرتاح، وعاد يوماً وفي يده وردة انتقاها السيد من إناء أمامه وقدّمها له ممازحاً”.
ماذا عن القلق؟ ثلاثة عقود من المهمة الثقيلة: حماية من تهتف قلوب وأرواح الملايين له “لبيك” فأنت المؤتمن على أنفسنا وخير أيامنا. “قليلاً ما غفا الحاج نبيل عميقاً، كانت أعصابه مستنفرة أغلب الوقت وقد ظهر ذلك في ارتجاف يده أحياناً، كان دائم الجهوزية والحضور لتأدية واجبه، وكانت أثقل الساعات بعض اطلالات السيد الحية بين الناس منذ سنوات والتي توقفت بعدها، إذ إن الحاج الشهيد لم يكن يعرف النوم قبلها بأيام”. وهنا لفت المصدر المقرّب إلى أنه أدرك ذلك بالربط بين هذه الحالة للشهيد جزيني وخروج السيد إلى الناس بعدها.
“ردد النبيل دوماً أن في السيد شيئاً من خصال أهل بيت محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين): حزمٌ وبأس شديد، ولين الرؤوف، المنشغل الفكر بهموم الناس، وقد كانت أزماتهم وحلولها الممكنة تحضر في حديثه دوماً، وذكاء نادر لمن يستطيع تحويل فكرة أو كلمة إلى قراءة مفندة ونقد وتساؤلات”، ومن هنا كان فصل الخطاب.
وصدفةً، روى الحاج نبيل وهذا من نادر ما روى أن “سماحته يحب ترداد قصيدة “سكّني روع النفوس” للسيدة فاطمة (ع)”، حتى حفظها أي الحاج نبيل وبعض الشباب المحيطين بسماحته، فكان يفرح عندما يرددونها أمامه.
أأبقى بعدك؟
“رغم حضور السيد نصرالله في أغلب لحظات عمر الحاج ابراهيم جزيني، إلا أن الأخير كان يشتاقه”. متى؟ “ربما على سبيل المثال عندما كان يبتعد الحاج نبيل عن سماحته جسدياً، أثناء مرافقة الحاج الشهيد قاسم سليماني، بطلب مباشر من السيد، طوال تواجد الحاج قاسم في سوريا أثناء الحرب على الارهاب”، مضيفاً “وقد كان يحضر الشوق في ملامحه عند تأمل أي صورة جديدة لسماحته، فيجلس ويدقق بها ملياً وملياً”.
أما السيد، فقد كان الحريص حرص المحب الحنون عليه، يتصل للاطمئنان في لحظات مرض الحاج ابراهيم، وعند إصابته خلال فترة الحرب في سوريا، وفي حادث أثناء قيادة دراجته النارية، ليمازحه لاحقاً “بعدك عم تنطنط عالموتسيكل؟”.
“كان السيد حسن نصرالله كلّ حياة الحاج نبيل”، أكد أحد المقربين الذي نقل ما أسرّ له الحاج نبيل: “أن لا جمال وخير في دنيا خالية من سماحته، وأن دعاءه الدائم هو أن لا يبقى فيها إذا رحل السيد”.
كانت هذه أولى أمنيات الشهيد ابراهيم جزيني، لهج بها لسانه الذي قلّ ما تحدث به، وقد كانت من حيث لا يدري جواباً على حيرة سيد شهداء المقاومة عن كيفية مكافأته، تحديداً في 27 أيلول “رحلا معاً، وهل من هدية أعظم وأجمل بالنسبة للنبيل؟”، ختم المصدر المقرب منه.