التدبّر بعد الفهم: قراءة في مفهوم مُهمَل داخل المجتمع القرآني

بحسب ما أورده قسم الثقافة والمجتمع في وكالة “رسا” للأنباء، يُعَدّ التدبّر في القرآن الكريم من الموضوعات المحورية التي تكرّر التأكيد عليها في آيات عديدة؛ فقد قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾؛ أي: أَلا يتعمّقون في النظر والتفكير في آياته؟ كما أشار القرآن في مواضع متعدّدة إلى أهمية قراءة الكتاب العزيز بحسب وُسْع القارئ وقدرته: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾.

ومع ذلك، يلاحَظ أحيانًا خلط في فهم معنى التدبّر والتمييز بينه وبين مجرّد القراءة أو الفهم، إذ تُستَخدم هذه المصطلحات في غير مواضعها بدقّةٍ كافية.

وفي هذا الإطار، أجرت وكالة «إکنا» حوارًا مع حجّة الإسلام والمسلمين عبدالكريم بهجت‌پور، عضو الهيئة العلمية في مجموعة «القرآن والعلوم الإنسانية» وصاحب تفسير «همگام با وحی»، لبيان حقيقة التدبّر ومعاييره.

ما المعنى الدقيق لمفهوم «التدبّر»؟

يُذكر للتدبّر معنيان:

1.قراءة الآيات على نحو متتابع.

2.متابعة الفهم بفهمٍ أعمق؛ أي أن تُفهم الآية أولًا ثم يُنظر في لوازم هذا الفهم وامتداداته.

ويرى بهجت‌پور أن الاستعمال القرآني للتدبّر لا يتّصل بالقراءة المتتابعة، بل بالمعنى الثاني: استكمال الفهم وملاحقة ما يقتضيه.

وهذا المعنى هو ما يظهر في الروايات أيضًا: فقد نُهي عن قراءة القرآن قراءةً سريعة، بل المطلوب من القارئ أن يتأمّل في المعنى. وكان الإمام الباقر (ع) إذا تلا القرآن وقف عند الآيات وكأنّه يُقيم حوارًا معها، فيردّد مضمونها في صيغة دعاء. فالتدبّر إذًا هو: متابعة الفهم والبحث عمّا يترتّب عليه.

ويُبيّن بهجت‌پور أن دراساتهم لعشرة من السور التي فُسّرت وفق منهج قائد الثورة الإسلامية –حفظه الله– أثبتت أن سماحته يتابع الفهم الأولي للآية ثم يستخرج منه الآثار العملية والتكاليف المترتّبة على القارئ، وهذا هو جوهر التدبّر.

ما الفرق بين «الفهم» و«التدبّر»؟

الفهم مقدّمة للتدبّر وليس جزءًا منه، فإذا تحقّق الفهم الصحيح، بدأت مرحلة التدبّر.

ويشير بهجت‌پور إلى أن مشكلة المجتمع اليوم أن كثيرين يكتفون بالقراءة بلا فهم، أو يقفون عند حدود الفهم الترجمِي أو التفسيري، ولا ينتقلون إلى مرحلة التدبّر.

هل التدبّر مرحلة بين الترجمة والتفسير؟

يعتبر بهجت‌پور هذا الرأي خاطئًا؛ فالتدبّر ليس حلقةً وسطى بين الترجمة والتفسير، ولا هو مفهوم مستقل عنهما، بل يبدأ التدبّر فقط بعد تحقق الفهم، سواء أكان فهمًا على مستوى الترجمة أو على مستوى التفسير العميق أو حتى التأويل الباطني.

هل التدبّر هو التحليل المتتابع للآيات؟

يرى بهجت‌پور أن هذا الفهم أيضًا غير دقيق؛ إذ إن تحليل الآيات للوصول إلى فهمها يُعدّ مقدّمة للتدبّر، لا هو التدبّر نفسه، أما تصميم منهج فهمٍ جديد وتسميته تدبّرًا، فهو خلط غير علمي بين المراتب المختلفة للفهم. ويؤكد أن التدبّر مرحلة ما بعد الفهم، لا مجرّد آلية للفهم.

ما الذي يشمله التدبّر بعد الفهم؟

الفهم هو الخطوة الأولى، أما التدبّر فهو تحويل الفهم إلى بوصلةٍ تُوجِّه القلب والسلوك. يضرب مثالًا بقوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج 24–25). يُفهَم أولًا أن المؤمنين يجعلون نصيبًا من أموالهم للفقراء. ثم يُسائل الإنسان نفسه: أين نصيبي أنا من ذلك؟ لماذا لم أحدد مقدارًا ثابتًا؟ ثم ينطلق إلى العمل؛ وهذا هو التدبّر.

وتشير الروايات إلى هذا المعنى، حيث ورد فيها: «لا خيرَ في قراءةٍ لا تدبّر فيها».

كيف يمكن إحياء التدبّر في المجتمع؟

يرى بهجت‌پور أن الأمر يتطلب خطوتين:

1.تنقيح الأصول العلمية للتدبّر وتحديد معاييره بدقة.

2.التركيز على مشاريع ميدانية صغيرة ومنهجية تُشعر الناس بتجربة التدبّر في حياتهم اليومية.

ويضيف: إنْ تمكّن المبلّغون والمثقفون من فتح باب التدبّر في 10% فقط من آيات القرآن، فسيتوجّه الناس تلقائيًا إلى بقية الآيات.

وفي الختام أكّد بهجت‌پور على ضرورة الانتقال من «الفهم الترجمِي» إلى «الفهم التدبّري»؛ أي ترجمة تُحرك القلب وتدعو للعمل. وقال: هذا ما كان يفعله أساتذة الأخلاق؛ يأخذون جملة واحدة من آية ثم يُخاطبون بها نفوسهم وطلابهم بوصفها أمرًا مباشرًا. وأضاف: إذا انتقل الناس من الفهم إلى التدبّر، فإن المجتمع سيُبعث من جديد.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل