السؤال: لماذا خلقني الله؟ أنا لم أُرِد أن أُخلَق فلماذا أوجدني؟ ألكي أُذنب في النهاية ثم أُلقى في جهنّم؟

الجواب: إنّ هذا التساؤل لا يكتسب معناه الحقيقي إلا عندما ندرك أنّ أصل الخَلق هو عطيّة إلهيّة، لم يُحسن كثيرٌ منّا بعدُ تقديرَ حقيقتها الواضحة.

وبنظرةً متأنّية ومحايدة تكشف لنا أنّ هذا التصوّر باطل من أساسه، فأنا قبل الخَلق لم أكن موجوداً حتى أريد أو لا أريد.حين يقول أحدهم: «أنا لم أُرِد أن أُخلَق»، فهو لا يلتفت إلى حقيقةٍ بديهيّة؛ وهي أنّ الـ«أنا» قبل الخَلق لم يكن له وجود أصلاً كي يُبدي إرادةً أو يختار رفضاً.

فجملةٌ مختلّة من أصل تركيبها، لا يمكن أن تُفضي إلى نتيجةٍ صحيحة.

وحتى لو أغمضنا النظر عن هذه الإشكالية يمكننا القول بأنه من الواضح الذي لا يختلف فيه اثنان أن الوجود خير من العدم، فلا معنى للاشكال والقول: لمَ خُلقتُ؟ إذ إن نعمة الوجود وإسباغه علينا هو من أعظم النعم التي منحنا الله إياها.

ومن ثمّ فالسؤال الدقيق الذي ينبغي أن يُطرح هو: «الآن بعدما خُلِقتُ، هل أُحبّ الوجود حقاً أم لا»؟

كلّ إنسانٍ منصف، لو تفكّر لحظةً بهدوء في هذا السؤال، لأدرك ببساطة: ليس هناك إنسانٌ يكره أصل الوجود.جميعُنا نُحبّ أن نكون، نحبّ الحياة، نحبّ الجمال واللذّة والمحبّة والعلم والقوّة والكمال…وهذه الميول كلّها قد أُودِعت في فطرتنا إيداعاً. إنّها محبّةٌ طبيعيّة، فطرية، تنبع من أعماق الإنسان. والحبّ للوجود هو في حقيقته حبٌّ لـ«واهب الوجود».

لماذا يُحبّ جميعُ البشر الجَمال؟ ولماذا ينجذب كلّ إنسانٍ نحو الكمال؟ فحتى لو أخطأ بعضُ الناس في تحديد المصداق والتطبيق، فإنّ أصلَ المحبّة والعشق ثابتٌ في كيان كلّ إنسان، وذلك لأنّ هذه المحبّة شعاعٌ من محبّة الله.

فخلْقُ الإنسان هو تجلٍّ لأسماء الله الحسنى، والموجود الذي هو مظهرٌ للّه تعالى، يكون بفطرته عاشقاً لمبدئه ولأصله.وقد قال الله تعالى عن خلق الإنسان: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: ٢٨–٢٩).

أي: كان الإنسانُ من طين ثم نفخ الله فيه من روحه (والروح هو مخلوق أعظم من الملائكة)، وهذا يعني أنّنا “مجبولون بشرافةٍ إلهيّةٍ عظيمة”.

يقول آيةُ الله جوادي آملي: لو صعد الإنسانُ إلى سَطحِ العالَم ونظر نظرةً شاملة، لرأى أنّ هؤلاء البشر كانوا قبل قرنين تُراباً، وسيعودون بعد قرنين تُراباً، وإنما أُضيف إلى هذا التراب حقيقةٌ إلهيّة لا تموت، وهي الروح التي بها يصبح الإنسانُ خليفةَ الله في الأرض.

إنّ الله لم يخلق الإنسان للنار

هذا التصوّر إنما هو وسوسةٌ شيطانيّة؛ فالشيطان -وقد صار هو نفسه من أهل الجحيم- لا يريد للإنسان إلّا أن يشاركه اليأس والهلاك. ولكنّ الله جلّ جلاله صرّح مراراً وتكراراً بأنّ غايته ليست عذاب البشر، بل “كمالهم والترقّي واستحقاق المقام”. يقول تعالى:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ (فاطر: ٣٩)، أي إنه جعلكم خلفاءه في الأرض. وهذا يعني أن خلق الإنسان هو: خلقُ قيمةٍ وكرامةٍ ومنزلة، لا خلقُ عذابٍ وفناء.

الذنب ليس نهاية الطريق؛ بل بدايةُ العودة

في منطق القرآن، ليس مجرد الذنب هو الذي يورد الإنسان النار؛ بل الإصرار على الذنب، وترك باب التوبة، والإعراض عن الرجوع.

يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ..﴾ (آل عمران: ١٣٥)، أي إنّ الخير كلّه لهؤلاء الذين إذا زلّوا أو أخطأوا، تذكّروا ربّهم، فبادروا إلى الاستغفار؛ لا الذين يستسلمون لليأس.

ثم تأتي الآية التي تمزّق حجاب القنوط من قلب الإنسان: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ، لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ (الزمر: ٥٣)، ومعناها: حتى لو ملأتَ صحيفتك بالذنوب، فإنّ الله لا يريد لك اليأس، ولا يرضى لك أن تُغلق باب الرجاء. وأما إذا اختار الإنسان طريق جهنّم، فذلك اختيارُه هو، لا برنامجُ الله.

ولو قال قائلٌ: يا ربّ! أنا لا أريد أن أسير نحو الخير، ولا أريد أن أستفيد من نِعَمك، ولا أريد أن أتوب، ولكن قل لي: لماذا خلقتني لأذهب إلى جهنّم؟؟ فمثل هذا الكلام ليس شكوى صادقة، بل هو اعتراض على طريقٍ منحرفٍ اختاره الإنسانُ بنفسه.، فالله سبحانه لم يُجبِر أحدًا، ولم يقهر أحدًا على المعصية؛ إنما فتح الطريق، ووسّع أبواب الرحمة، وجعل للعبد آلاف الفرص للعودة والمغفرة. ويقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران / 31)، أي: إذا توجّهتَ إلى الله سائرًا على طريق الحقّ، فإن الله لا يحبّك فحسب، بل يغفر لك ذنوبك كذلك.

بل أكثر من ذلك، يبدل الله السيئات بأضعافها من الحسنات! وهذا قمة الجود والكرم واللطف والرحمة.

وفي المقابل يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ (العنكبوت / 23)، أي إنّ الذين يُعرضون عن الله عمدًا، ويكفرون بآياته، هم الذين اختاروا بأنفسهم درب اليأس، لا أنّ الله جرّهم إليه أو جزاهم به.

والنتيجة:

أنّ الله تعالى إنما خلقنا للوجود، وللرقي، وللجمال، وللكمال، وللجنة، وفتح لنا أبواب الفرص على مصراعيها، وكتب على نفسه أن رحمته سبقت غضبه فوسعت كل شيء. فليس الجحيمُ هو الغاية التي خُلق لها الإنسان، بل هو عاقبةُ من يُغلق أبواب الرحمة المفتوحة على مصراعيها بوجهه.

فالشيطان يوسوس للإنسان: أنت لا محالةَ من أهل النار! ويقول -تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:168- 169]. وحذرنا تعالى من الإنصات إلى وسوسته وتشكيكاته، قال سبحانه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:268]. وخاطب عباده قائلاً: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾.. لا تيأسوا أبداً من رحمتي.

إذن، اتضح مما تقدم أن منشأ هذه الشبهة من أساسه باطل؛ لأن الله سبحانه خالقُ القيمة والكرامة، لا خالقُ اليأس والقنوط. وما جئنا إلى هذه الدنيا إلا لنرتقي إلى مقام الخلافة الإلهية والسعادة الأبدية، لا لنُساق إلى جهنّم.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

السؤال: لماذا لا يمنع الله بعض الظلم والجرائم التي يرتكبها الإنسان؟
هل توجد أدلة عقلية على الشفاعة ؟
هل الإمام الحسين (عليه السلام) طلب من عمر بن سعد (لعنه الله تعالى) بعدما حوصر أخذه إلى يزيد ومبايعته؟
السؤال: هل هذه الآية توجب اليأس: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون}؟ هل هذا استفهام استنكاري يستنكر فيه الخالق جلّ وعلا ما يتوهّمه البعض من غفران الذّنوب جميعها وجعل حياتهم سهلة لا نكد فيها؟.. فقد ارتكبتُ ما ارتكبتُ وتبتُ وحججتُ بيت اللّٰه الحرام، ومنذ ذلك الحين وأنا قد انتقلتُ إلى الضّفّة الأخرى البيضاء، وأعيش عالَماً مختلفاً عمّا كنتُ فيه.. ولكنْ قراءة هذه الآية يؤرقني ويعذّبني ويبكيني.. فهل أنا على صواب أم على خطأ؟..
السؤال: ما المقصود بـ ( وَطَوارِقِ الْحَدَثانِ ) في دعاء يوم الاحد ؟

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل