السؤال: ما مبرّرات استمرار الحاجة إلى الدين في ظل تطوّر العلوم الحديثة؟

الجواب: حتى في العصر الذي تمكّن فيه العلم الحديث من كشف أسرار الجينات، وفهم بنية المجرّات، واستكشاف أعماق العقل الإنساني، تظلّ هناك إشكالية معرفية قائمة: لماذا، على الرغم من هذا التقدّم العلمي والتقني الهائل، يبقى الإنسان محتاجًا إلى مرجعية تتجاوز حدود العلم؟

إن التأمل في المنجزات العلمية قد يثير تساؤلًا مشروعًا مفاده: هل ما زال للدين دور في حياة الإنسان المعاصر؟

والجواب المختصر والدقيق هو أن العلم، في جوهره، أداة تفسير وسيطرة، بينما يضطلع الدين بوظيفة التوجيه وإضفاء المعنى.

فالعلم يقدّم للإنسان معرفة بكيفية تحسين شروط الحياة، وإطالة أمدها، وتطوير وسائلها، لكنه يعجز -بحكم طبيعته المنهجية- عن الإجابة عن الأسئلة الغائية الكبرى، من قبيل: ما الغاية النهائية من الوجود الإنساني؟ وما الطريق إلى الكمال الحقيقي والسعادة الوجودية؟

وهنا يتجلّى دور الدين بوصفه الإطار الذي يمنح الحياة معناها، ويوجّه المعرفة العلمية نحو غايات إنسانية وأخلاقية متوازنة.

كما يقرر الأستاذ مرتضى مطهري، أن التصور الذي ساد في بعض المراحل التاريخية، والقائل بأن تقدّم الحضارة الإنسانية سيؤدي بالضرورة إلى تراجع الدين أو الاستغناء عنه، قد تبيّن بطلانه؛ إذ أثبتت التجربة المعاصرة أن التطور العلمي والتقني، مهما بلغ من الاتساع والعمق، لا يستطيع أن يسدّ الحاجات الوجودية العميقة للإنسان، ولا أن يعوّض افتقاره الجوهري إلى الدين والمعنى.

ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة من خلال إرجاع الحاجة إلى الدين إلى البنية الفطرية للإنسان، حيث يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، مما يدلّ على أن التدين ليس نتاج ظرف تاريخي أو جهل علمي، بل تعبير عن مقتضى فطري ثابت في الكيان الإنساني.

وعليه، فإن التقدّم العلمي لا يفضي إلى إقصاء الدين، بل على العكس، ينبغي أن يكون عاملاً معززًا للإيمان؛ إذ كلما تعمّق الإنسان في دراسة الكون، ووقف على ما فيه من نظم دقيقة وتعقيد مدهش وتناسق محكم، ازداد وعيه بحضور العقل المدبّر والخالق الحكيم، واتسعت دائرة تساؤلاته الوجودية التي لا يستطيع العلم التجريبي وحده الإجابة عنها.

وبهذا المعنى، لا يشكّل العلم والدين مسارين متعارضين، بل يمثلان مجالين متكاملين: يختصّ العلم بالكشف عن «كيفيات» العالم، بينما يتكفّل الدين بتبيين «غايات» الوجود ومعناه النهائي.

يرى كارل غوستاف يونغ (Carl Gustav Jung) -عالم النفس السويسري الشهير، ومؤسّس علم النفس التحليلي- أن الإحساس الديني يمثّل «البعد الرابع في كيان الإنسان»، ويؤكد أن الحسّ الديني يُعدّ أحد العناصر الأولية، الثابتة، والطبيعية في الروح الإنسانية. فالجانب الجوهري والأساسي لهذا الإحساس لا يمكن مطابقته أو اختزاله في أيٍّ من الظواهر أو الخبرات الأخرى، بل هو نمط خاص من الإدراك الفطري ومسار عقلي مستقل، تتفجّر إحدى منابعه من أعماق اللاوعي النفسي للإنسان.

كما تُظهر التجربة التاريخية، إلى جانب شهادات عدد من المفكرين والعلماء الغربيين، أن العلم -في حدّ ذاته- غير كافٍ لقيادة الإنسان نحو الكمال الأخلاقي والارتقاء الروحي.

وفي هذا السياق يقول أليكسيس كاريل (Alexis Carrel)، الطبيب والفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الطب.:«لقد تقدّمت العقول كثيرًا، ولكن ـ ويا للأسف ـ ما تزال القلوب ضعيفة؛ إذ إن الذي يمنح القلب قوته الحقيقية هو الإيمان».

إن الحضارة والتكنولوجيا تمنح الإنسان أدوات فائقة القدرة والتأثير، غير أن هذه الأدوات لا تُحدث بذاتها تحولًا جوهريًا في الإنسان من حيث القيم والغايات. فالدين وحده هو الذي يزوّد الإنسان بمنظومة القيم، ويحدّد له الهدف، ويرسم له الاتجاه الصحيح لمسار الحياة.

فالدين، إلى جانب كونه فطريًا، يلبي أيضًا الاحتياجات الإنسانية. يقول الفيلسوف والكاتب الروسي الشهير تولستوي: «الإيمان هو ما يعيش الإنسان من أجله؛ إنه رأس مال الحياة».

الدين يمنح الإنسان معنى، ويوضح مسار حياته، ويزيل الخوف والارتباك، ويمنحه الطمأنينة، بل ويعزز التماسك الاجتماعي والأخلاق كما يقول العلامة الطباطبائي (قدس سره): «الفضائل التي توجد في الإنسان المعاصر، ولو كانت قليلة، فهي ناتجة عن التعاليم الدينية».

النقطة الجوهرية هي أن العلم، عبر الملاحظة والتجربة، يوفر أدوات للتقدم، لكن ملاحظة النظام المعقد في الكون، والدقة في أعضاء الجسد، والقوانين الطبيعية، وأسرار الكون، تدفع الإنسان للدهشة وتجعل إيمانه بخالق هذا الكون أقوى.

بمعنى آخر، كلما تقدم العلم، ازدادت معرفة الإنسان بعظمة وحكمة الوجود، وهذه المعرفة تصبح جسراً للنمو الديني والروحي.في النهاية، العلم والدين ليسا في تضاد، بل هما مكملان لبعضهما البعض: فالعلم هو ضوء الطريق لفهم الكون، والدين هو ضوء الطريق للوصول إلى الكمال والطمأنينة والسعادة الحقيقية. بدون الدين، قد يقوي العلم العقل لكنه يترك القلب وحيدًا؛ أما مزيج العلم والإيمان فيرفع الإنسان إلى أعلى المراتب الإنسانية والإلهية.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

هل نحاسب على أفكارنا السّيّئة؟
السٶال/ سورة يوسف، آية 83، صفحة 245 (( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )) ....
السٶال: ما هو تفسير قول الإمام الرضا "عليه السلام" لمّا سُئل عن المشيئة، قال -: المشيئة : الاهتمام بالشيء، والإرادة: اتمام ذلك الشيء ؟
السٶال/ السلام عليكم جاء في سورة المعارج، آية 19، صفحة 569
(( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ))
كيف أن الله يخلق الانسان هلوعا يمنع اذا جاءه الخير ويجزع اذا مسه الشر
ثم يطالبه بعدم الجزع ويطالبه بالعطاء . فهل يمكن للانسان ان يغير صفة تكوينية اوجدها فيها الله؟ وما الحكمة في خلقه بهذه الصفة؟
السؤال : ما مدی صحة الرواية ( ما استفاد امرء فائدة بعد الاسلام اكثر من زوجة تطيعه اذا امرها وتسره اذا نظر اليها) ؟

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل