الجواب: إنّ وقوع النسخ في القرآن الكريم ليس منشؤه التغيّر والتبدّل في الكلام الإلهي، بل يعكس مظهراً من مظاهر التدبير الإلهي الحكيم في عملية التربية التدريجية للإنسان والمجتمع؛ فَالآيات التي انتهى أمد حكمها التشريعي تظلّ مع ذلك حاملةً لنور الهداية، وشاهدةً على تاريخ التشريع الإلهي.
القرآن الكريم ليس مجرد كتابٍ تشريعي، إنما هو كتاب هداية للبشرية، من خلال ذكر المواعظ والحكم، وأخبار الأمم السابقة، والسرد التاريخي لتكوّن الأمة عبر مسار الزمن؛ حيث إنّ بعض الآيات قد أُنيطت بها مهام ظرفية مرحلية، غير أنّها بقيت على الدوام في متن القرآن بوصفها دليلاً على حكمة الوحي الإلهي من جهة، ولما تكتنزه من بعد توجيهي وتربوي من جهة أخرى.
وتوضيح ذلك في أمور:
أولاً: توضيح المعنى الدقيق لمفهوم النسخ. فالنسخ لا يعني خطأ الآية أو بطلانها، بل يدلّ على انتهاء مدة صلاحية تنفيذ حكمٍ معيّن، واستبداله بحكمٍ آخر. أي إنّ الحكم الأوّل كان منذ البداية مقيَّداً بإطارٍ زمني خاص، غير أنّ هذا القيد لم يكن ظاهراً للناس، ومع نزول الآية الناسخة تبيّن انتهاء زمن العمل به. وعليه، فإنّ النسخ لا ينطوي على أيّ تغيير في الرأي، ولا على ندمٍ أو مراجعة في العلم الإلهي، بل هو مجرّد انكشاف مرحلةٍ من مراحل التدبير الإلهي الحكيم.
ثانيا: بخصوص سبب نزول آيةٍ كان مقرَّراً أن يُنسخ حكمها لاحقاً منذ البداية، فجوابه واضح؛ إذ إنّ تلك الآية كانت ضرورية، مؤثّرة، وذات وظيفة تربوية دقيقة في المرحلة الزمنية التي نزلت فيها. فالمجتمع الإسلامي في بدايات تشكّله لم يكن يمتلك القدرة على تحمّل جميع الأحكام النهائية دفعةً واحدة. إنّ تربية الإنسان والمجتمع تقتضي مساراً تدريجياً، على نحوٍ يشبه العملية التعليمية التي تتمّ مرحلةً بعد أخرى. ولذلك نزلت بعض الأحكام لتقود المجتمع من حالةٍ معيّنة إلى حالةٍ أرقى، وبعد تحقيق هذا الهدف أُبدلت بحكمٍ أكمل منها. وعليه، فإنّ الآية المنسوخة كانت منذ الأصل ذات مهمة مؤقتة، وقد أدّت دورها التاريخي والتربوي والاجتماعي على الوجه الأكمل.
وفي هذا السياق يتّضح معنى مصطلحي الناسخ والمنسوخ:فالآية التي تتضمّن الحكم الجديد تُسمّى ناسخة، أمّا الآية التي انتهى زمن العمل بحكمها فتُسمّى منسوخة. غير أنّ النقطة الجوهرية هنا هي أنّ النسخ لا يعني سوى رفع الحكم العملي، لا حذف الآية من القرآن الكريم؛ فالآية المنسوخة تظلّ «كلاماً إلهياً» وتحتفظ بمكانتها النصّية والقرآنية.والسؤال هنا: إذن لماذا لم تُحذف الآيات المنسوخة من القرآن الكريم؟
والجواب: لو تم حذف الآيات المنسوخة من القرآن، لكان ذلك بمثابة تحريفٍ وتدخّلٍ في النصوص الإلهية، وهو بابٌ إذا فُتح مرّةً واحدة فلن تكون له حدود أو ضوابط. وعندئذٍ سيفتح المجال أمام أهل الزيغ والانحراف والبدعة ليحذفوا أيّ آية بذريعة «كونها منسوخة»، الأمر الذي يشكّل خطراً جسيماً على أصل القرآن الكريم وسلامة الدين. ومن هنا، فإنّ بقاء الآيات المنسوخة في المصحف الشريف يُعدّ سداً منيعاً وحاجزاً راسخاً في وجه أيّ محاولة للتحريف أو التلاعب بكتاب الله تعالى.ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الآيات المنسوخة، وإن لم يعد لها حكمٌ تنفيذي عملي، إلا أنّها تظلّ كلامَ الله تعالى، وحاملةً لحقائق كبرى؛ فهي تُجسّد تاريخ نزول الوحي، وتكشف فلسفة تشريع الأحكام، وتوثّق إلى الأبد المسار التدريجي لتربية المجتمع الإسلامي.
وفضلاً عن ذلك، فإنّ تلاوة هذه الآيات وقراءتها تظلّ مشمولةً بآثارٍ وبركاتٍ دنيوية وأخروية عظيمة؛ فالنور الإلهي الساري في سائر آيات القرآن حاضرٌ فيها كذلك. ومن ثمّ، فإنّ حذفها كان سيؤدّي إلى الحرمان من هذه البركات والأنوار الإلهية، ومن الطبقات العميقة للهداية التربوية التي يتضمّنها القرآن الكريم.لماذا تستمرّ تلاوة الآيات المنسوخة.
إنّ تلاوة القرآن الكريم لا تقتصر على غاية تنفيذ الأحكام، بل تهدف أيضاً إلى تحقيق جملةٍ من المقاصد، من أبرزها: إقامة الصلة بكلام الله تعالى، وتعزيز الإيمان، والتدبّر في مسار الهداية، وفهم الفلسفة التشريعية للأحكام. وأخذ العبرة من الأحداث الماضية.. فمن خلال قراءة هذه الآيات، يدرك الإنسان كيف قام الإسلام ببناء المجتمع خطوةً فخطوة، وكيف نُظِّمت التكاليف على نحوٍ مرحلي، وكيف أُقيم التوازن بين «الغاية المثلى النهائية» و«القدرة الواقعية للناس».
ومن الجدير بالتنبيه أنّ النسخ لم يَمسّ قطّ الأصولَ العقدية والأسسَ الجوهرية للدين؛ فمبادئ مثل التوحيد، والعدل، والأخلاق، وأصل عبادة الله تعالى، ظلّت ثابتة منذ البداية ولم يطرأ عليها نسخٌ في أيّ مرحلة. وإنما اقتصر النسخ على نطاقٍ محدود من الأحكام التنفيذية والاجتماعية، وهي تلك الأحكام التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بظروف الزمان، وبطاقات الناس، وبالأوضاع الخاصّة للمجتمع.
ومن المنظور العقلي أيضاً، يُعدّ النسخ أمراً مفهوماً تماماً؛ فكما أنّ البرنامج التعليمي للطفل يختلف عن برنامج المراهق والبالغ، كذلك نزلت الأحكام الاجتماعية في الدين متناسبةً مع مستوى استعداد المجتمع وقابليته. وإنّ تبدّل هذه البرامج لا يُعدّ دليلاً على ضعف المُشرِّع، بل هو شاهدٌ على حكمته، وحسن تدبيره، ومعرفته الدقيقة بمسار نموّ الإنسان وتكامله.وفي الختام، يجدر التنبيه إلى أنّ عدد الآيات المنسوخة، خلافاً لبعض التصوّرات الشائعة، قليلٌ جداً؛ ووفق رأي غالبية الباحثين لا يتجاوز عشر آيات. بل إنّ كثيراً من الآيات التي يُتوهَّم أحياناً أنّها منسوخة، يتبيّن عند التدقيق في معانيها أنّها غير منسوخة في الأصل، وأنّ لكلٍّ منها حكماً ومقاماً مستقلاً في المنظومة القرآنية.