الجواب: إنّ طرح هذاالتّساؤل: «لماذا خلق الله الإنسان؟» ليس تشكيكًا في أصل الخلق، بل هو في حقيقته محاولة لفهمٍ أعمق لحقيقة الغايات الإلٰهية، وأسرار الوجود، ونسبة الخالق إلى العالم، ومكانة الإنسان في مسار الكمال والوجود.
لماذا خلق الله عز وجل، وهو الغني عن كل شيء؟
الله سبحانه وتعالى هو واجب الوجود؛ أي إن وجوده قائم بذاته، غير متوقف على شيء خارج عن ذاته. فلا يتطرق إليه نقص، ولا حاجة، ولا فقر. وبناءً على ذلك، فإن خلق الإنسان أو العالم لا يمكن أن يكون بدافع سدّ حاجة أو تعويض نقص، لأن الكامل على الإطلاق لا يفتقر إلى شيء يكتسبه بالخلق.
لكن إلى جانب الغنى المطلق، فإن الله سبحانه متصف بكمالات ذاتية أخرى لامتناهية، ومنها كونه فيّاضًا جوادًا؛ أي مُفيضًا للخير على الدّوام.
وفي منطق العقل، يُساوي الوجود الخير والجود، بينما يُساوي العدم النقص والفقر. فحيثما يتحقق الوجود، يتحقق الخير.
ومن هنا، فإن الخلق لم يصدر عن حاجة، بل عن كمال ذاتي، فالإنسان الكريم مثلا عندما يعطي لا لسبب أو مصلحة أو تحقيق نفع، بل لأن ذاته كريمة فحسب، يعطي بلا مقابل.
فالله سبحانه لا يخلق ليحصل على شيء، بل يخلق لأنّه بذاته جواد كريم رحيم فيّاض، ليس بخيلاً ولا عاجزا. إذ لو كان هناك موجود قابل للوجود، ولم يُفَض عليه الوجود، لكان ذلك منعًا للخير، ومنع الخير بخل، والبخل محال في حق الله.
وبعبارة أبسط: الله خلق لأنه الله. فالفيض من لوازم ذاته، كما أن إشراق الشمس نابع من حقيقتها، لا طلبًا لمنفعة.
لكن إذا كان الخلق كمالًا إلهيًا، فلماذا خُلق الإنسان تحديدًا؟
هنا يظهر سؤال غاية الإنسان. قبل الإنسان، خلق الله الملائكة: موجودات طاهرة، مطيعة، دائمة العبادة، لا تعرف العصيان. فلو كان الغرض من خلق الإنسان مجرد العبادة، لكانت الملائكة كافية في تحقيق هذا الغرض.
إذًا، لم يُخلق الإنسان من أجل أصل العبادة، بل من أجل ما هو أعمق من العبادة الجبرية. فالملائكة كاملون، لكنهم بلا اختيار. ثابتون في مقامهم، ولا يملكون قابلية النمو الإرادي.
أما الإنسان، فقد أراد الله له كمالًا أعلى، لأن عطاء الله غير محدود، والمقامات لديه لا حد لها، فمن الطبيعي أن يوجِد مخلوقاً يمكنه أن يتحقق بإرادته وخياراته بتلك المقامات، ويبلغ الكمال باختياره. فالإنسان لا يولد كاملًا، ولا هو مجبور على الخير، لكنه قادر -بعقله وإرادته- على أن يختار طريق الكمال.
وهذا الكمال الاختياري أرقى من الكمال المعطى للملائكة. وقد عبّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عن هذه الحقيقة بقوله: «إن غلب عقلُ الإنسان شهوته كان أفضل من الملائكة، وإن غلبت شهوته عقله كان أضل من البهائم». (علل الشرائع، ص 4، ح 1)
إذن، فما معنى قوله تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾؟
هذه الآية لا تعني بحالٍ أن الله محتاج إلى عبادة الإنسان. فالقرآن يصرّح بأن الله غني، لا يحتاج إلى وجودنا ولا إلى سجودنا.
والمقصود بالعبادة هنا هو الطاعة الواعية والسير في طريق النمو الصحيح. أي إن الإنسان خُلق ليبلغ كماله عبر العبودية الاختيارية، لا ليضيف شيئًا إلى ذات الله.
فالعبادة نفعها راجع إلى الإنسان نفسه، لا إلى الله؛ كحال الأب الذي يوصي ابنه بطلب العلم، لا لمصلحته هو، بل لسعادة ابنه.
ولماذا المعاناة والابتلاءات التي يعيشها الإنسان في هذه الحياة؟
لأنّ هذا العالم هو عالم التكامل، والتكامل لا يتحقق من دون تحدٍّ. الإنسان في هذه الحياة كادح: يسعى، ويتعثر، ويقوم، ويخطئ، ثم يتوب، فينمو. حتى الذنب، إذا أعقبه ندم ورجوع، قد يصبح سلّمًا للترقي؛ لأنه يوقظ الإنسان على ضعفه، وفقره، وحاجته الحقيقية إلى الله.
فلو لم يكن هناك طريقان: طريق الخير وطريق الشر، لبطل الإختيار وسار الجميع في طريق الخير وحده، وأصبحوا كالملائكة مسيرين، إذ لا طريق آخر ليحصل الإختيار.
وقد لخّص القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(سورة الملك: 2). أي إن الإنسان خُلق ليبني نفسه في ساحة الاختيار؛ لا لسدّ فراغٍ في ذات الله، بل للوصول إلى كمالٍ أعلى من كمال الملائكة، ولا يتحقق إلا بالحرية والمسؤولية.
في كتاب (علل الشرائع للصدوق ج2 ص9) بإسناده عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (ع) فَقُلْتُ لَهُ لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْهُمْ سُدًى بَلْ خَلَقَهُمْ لِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَ لِيُكَلِّفَهُمْ طَاعَتَهُ فَيَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ رِضْوَانَهُ وَ مَا خَلَقَهُمْ لِيَجْلِبَ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً وَ لَا لِيَدْفَعَ بِهِمْ مَضَرَّةً بَلْ خَلَقَهُمْ لِيَنْفَعَهُمْ وَ يُوصِلَهُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَبَدِ.