جاء في القرآن الكريم أن جميع البشر فُطروا على التوحيد(1)، وأن الأنبياء الإلهيين أُرسلوا عبر التاريخ لهداية الناس نحو التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد(2). ومع ذلك، تشير المعطيات التاريخية إلى أن الشرك وعبادة الآلهة المتعددة كانت سائدة في العديد من الحضارات القديمة؛ فإيران قبل ظهور زرادشت ودينه في عهد الساسانيين، وكذلك الهند متعددة الآلهة، تُعدّ أمثلة واضحة على المجتمعات التي مارست الشرك.
النقطة الأولى: الفطرة بمعنى الميل الداخلي، لا التحقق الخارجي
ومن هذا المنطلق، يُثار التساؤل: هل يشكّل الانتشار التاريخي للشرك تحديًا للفكرة القرآنية المتعلقة بـ«الفطرة التوحيدية للإنسان» أو بـ«نزول الأنبياء على جميع الأمم»؟
وسيتم تناول هذا الموضوع لاحقًا من خلال مجموعة من الملاحظات التحليلية المحكمة.
في النظرة القرآنية، الفطرة تعني طبيعة الإنسان وبنيته الداخلية؛(3) ميل داخلي نحو معرفة وعبادة أكمل الموجودات، أي الله تعالى.(4) لذلك، الغريزة التوحيدية مُستقرة في الإنسان، ولكن هذا لا يعني تحققها العملي لدى جميع البشر والمجتمعات؛ كما أن:
- الخير موجود في فطرة الجميع، ومع ذلك التاريخ مليء بالناس الأشرار؛
- السعي وراء الحقيقة في فطرة الإنسان، ولكن التاريخ مليء بالخرافات والجهل؛
- العدالة مطلوبة عالميًا وشاملة، ومع ذلك الظلم كان دائمًا شائعًا؛
لذلك، الفطرة، مثل باقي القدرات الإنسانية، تحتاج إلى هداية ونمو ورعاية. فإذا لم يُرِد الإنسان ذلك لنفسه، أو لم ينمو بشكل صحيح، أو نشأ في بيئة ملوثة بالشرك والخرافة، يضعف نور فطرته إلى الحد الذي لا يجده في داخله، بل قد ينكره أيضًا.
النقطة الثانية: تعليم وتربية الأنبياء وإرادة الناس
صحيح أن الأنبياء هم مربون ومعلمون يسعون لغرس وتربية الفطرة، لكن ما لم يكن الفرد والمجتمع قابلاً لهذا التعليم والتربية، فلن تزهر هذه البذرة الداخلية: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».(5).
وبعبارة أخرى، الإنسان ليس كالنبات الذي إذا وصله الماء والضوء والهواء يزهر بالضرورة، بل لا بد من أن يتحقق رغبة في داخل الإنسان بالنمو والازدهار، إلى جانب العوامل الخارجية والداخلية. فاختياره وإرادته لهما أثر بالغ وحاسم في تنمية بذرة الفطرة.
على سبيل المثال، كان موسى عليه السلام داعيًا إلى التوحيد، وقد شاهد بنو إسرائيل معجزاته ورافقوه، ولكن بعد فترة قصيرة من تأخر موسى في العودة من طور سيناء إلى قومه، تأثروا بعجل سامري ووقعوا في الشرك، ثم عادوا إلى التوبة وتركوا الشرك عند رجوع موسى إليهم(6).
وبالمثل، يمكن ملاحظة هذا التناوب بين التوحيد والشرك في الديانات الإيرانية والهندية، ففي حين أن زرادشت جعل الجميع موحدين، عاد الشرك وبناء المعابد للآلهة الأخرى. وكذلك في الديانات الهندية وغيرها(7).
النقطة الثالثة: الشرك وجوهر التوحيد فيه
الشرك نوع من التحريف والانحراف عن الفطرة وتعاليم الأنبياء، وليس إنكارًا لها من الأساس. فقد كان المشركون مؤمنين بالله ومواظبين على عبادته، لكن مع مرور الزمن، صاروا يشركون معه غيره لأسباب عدة، فينادون هذه المخلوقات ويطلبون العون منها ويعتقدون أنها مؤثرة في تدبير العالم. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في آيات من سورة الزمر: «أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ».(8)، و«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمسِكَاتُ رَحْمَتِهِ».(9)
وهذا يدل على أن الفطرة الإلهية لم تنطفئ تمامًا في المجتمعات المشركة، وأن جهود الأنبياء لم تذهب سدى، وبقيت كثير من تعاليمهم قائمة، لكنها مع مرور الزمن تزايدت ونقصت لأسباب مختلفة، وبما أنها أصبحت عادة، صار تغييرها أمرًا عسيرًا وصعبًا.
النقطة الرابعة: أهم العوامل المؤثرة في نشوء الشرك
يذكر القرآن الكريم بوضوح عدة أسباب تدفع الإنسان إلى الشرك، ويُظهر النظر في هذه الأسباب أن واقع الإنسان والمجتمعات البشرية أعقد مما يعكسه السؤال.
الإنسان يمتلك فطرة، والمجتمعات البشرية قد أرسلت إليها الأنبياء، إلا أن هناك عوامل أخرى تؤدي إلى انحراف المجتمع نحو الشرك:
- التقليد الأعمى للآباء والأجداد:
أحد أهم العوامل هو اتباع الأجيال السابقة بلا تمحيص ولا دليل. جاء في القرآن الكريم: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ».(10). - اتباع الظن والحدس:
كما ورد في سورة الأنعام، كثيرًا ما يتبع الناس الظن: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»(11). فالانصياع للأغلبية والخوف من الطرد الاجتماعي يدفعان الناس لقبول المعتقدات الخاطئة السائدة. - التبريرات الجبرية:
كان المشركون ينسبون انحرافهم إلى الله، متغاضين عن مسؤولية الإنسان في خلق الانحرافات أو مواجهتها: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».(12). ويؤكد الله سبحانه في نقد هذا التوجه أن القول بلا دليل وتحميل الانحرافات لله أمر مردود: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ».(13) - تعطيل العقل والقلب:
يشير القرآن الكريم أيضًا إلى أن تعطيل العقل وإطفاء نور القلب من الأسباب المؤثرة في الانحراف والشرك. ففي سورة الأعراف: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ».(14). - الإنغماس في الدنيا والاستكبار:
أدى الانغماس في المال والنعم المادية إلى معارضة الأنبياء واعتقاد هؤلاء أنهم لا يحتاجون إلى الدين، واعتقادهم بأن أسلوب الحياة الموروث كافٍ لهم: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».(15)، و«وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ».(16). وهؤلاء الأغنياء الدنيويون، الذين غرقوا في ملذات الحياة، كانوا من كبار وأعيان المجتمع، ولم يقاوموا الأنبياء فحسب . بل حرضوا الناس على معارضتهم: «وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ».(17).
النتيجة:
بعد استعراض المفاهيم القرآنية والأدلة التاريخية، يتضح أن الميل إلى الشرك في تاريخ البشر لا يتعارض مع الفطرة التوحيدية. بل يدل على أن الإنسان، في غياب الهداية وتحت تأثير العوامل الخارجية، قد ينحرف عن فطرته . فالفطرة بمثابة نور داخل الإنسان، وهذا النور يحتاج إلى المحافظة على إشراقه. وقد جاء الأنبياء الإلهيون لإحياء هذا النور وتنميته. وعندما تنكر المجتمعات الأنبياء أو حرّفت دعوتهم، تتوفر الأرضية لظهور الشرك. لذلك، الإيمان بالفطرة التوحيدية وبعثة الأنبياء لا يتناقض مع الوقائع التاريخية. بل يفسّرها بشكل أعمق، ويبيّن لماذا ابتعد الناس في كثير من الأحيان عن مسار التوحيد الصحيح وحاجتهم للهداية الإلهية.
المراجع:
- سورة الروم، آية 30: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».
- سورة فاطر، آية 24: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ».
- مطهري، مرتضى، مجموعة آثار: الفطرة، طهران، دار صدرا، ج3، ص464-466.
- مطهري، مجموعة آثار: الفطرة، ص492-502.
- سورة الرعد، آية 11.
- سورة البقرة، آيات 51-54.
- للاطلاع أكثر، يُرجع إلى كتب تاريخ الأديان.
- سورة الزمر، آية 3.
- سورة الزمر، آية 38.
- سورة البقرة، آية 170.
- سورة الأنعام، آية 116.
- سورة الأنعام، آية 148.
- سورة الأعراف، آية 28.
- سورة الأعراف، آية 179.
- سورة سبأ، آيات 34-35.
- سورة الزخرف، آية 23.
- سورة الأعراف، آية 90.