في السیرة النبي الأعظم /
لقد ورد مصطلح «الأُمّيّ» وبالأشكال التالية: «أُمّيّ» «أُمّيّون» و «أُمّيّين» ست مرات(٢) في القرآن الكريم، وكان المراد في جميعها معنى واحداً فقط، وذلك المعنى هو الإنسان أو الناس الذين يبقون على الحالة والوضع التي ولدوا عليها، والمقصود من البقاء على الحالة والكيفية السابقة هو أنّهم بالنسبة إلى صفة القراءة والكتابة لم تتغير حالتهم عمّا ولدوا عليه، فكما أنّهم كانوا في الأيام الأُولى لولادتهم غير قادرين على القراءة والكتابة، فكذلك لم يحدث أيُّ تحول في حياتهم من هذه الجهة، وقد أُطلق في اللغة العربية على مثل هذه الحالة (عدم التحوّل والتغيّر) مصطلح «الأُميّة» و على الشخص الذي يتّصف بهذه الحالة مصطلح «الأُمّيّ».
ونحن إذا راجعنا القرآن الكريم نجد أنّه يصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصف «الأُمّيّ» ويوضح أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى حين نزول الوحي عليه كان أُمّيّاً، حيث يقول سبحانه: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوراةِ وَالإِنّجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَليْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَروُهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) .
( ٢) ونحن إذا أمعّنا النظر في الآية المباركة نجد أنّه سبحانه يصف النبي الأكرم بخصال عشر( ٣)، القسم الأعظم منها يدلّ على صدق دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الصفات هي:
رسول، 2. نبي، 3. أُمّي، 4. مكتوب اسمه في التوراة والإنجيل، 5. منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، 6. وينهى عن المنكر، 7. ويحل لهم الطيّبات، 8. ويحرّم عليهم الخبائث، 9. ويضع عنهم إصرهم،10. ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.
وهذه الخصال العشر جميعهاـ باستثناء الأُولى والثانية ـ تدلّ على صحّة وصدق نبوّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن يطالع القرآن الكريم لا يجد أيّ آية تدلّ على حقّانية النبي الأكرم كهذه الآية التي جمعت فيها كلّ تلك الصفات والأدلّة، وكأنّ الآية تريد أن تعرف العالم على أدلّة وبراهين نبوّته (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول لهم: إنّ دليل نبوّته يتمثل في:
1- انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنسان أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، وقد جاء والحال هذه بكتاب يعجز الجميع عن مواجهته ومعارضته ولا يشكّ أحد في عظمة تعاليم وقوانين ومفاهيم ذلك الكتاب ، ولا شكّ أنّه وبحساب الاحتمالات والمحاسبات العقلية يستحيل على إنسان لم يقرأ ولم يكتب وقد عاش في مجتمع جاهلي ومحيط متخلّف أن يأتي ـ و بدون الاستعانة باليد الغيبة ـ بمثل هكذا كتاب عظيم في كلّ جوانبه.
2- انّ هذا النبي قد ذكرت خصائصه وصفاته في الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وأنّها مازالت عند أتباعها من اليهود والنصارى وانّه قد بشّر به كلّ من النبي موسى وعيسيعليمها السَّلام، حيث قال سبحانه:
( قُلْ يا أَيُّها النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِه النَّبِيّ الأُمّيّ الَّذِي يُۆْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبَعُوهُ لَعَلَّكمْ تَهْتدُون ) .(٤)
والشاهد على أنّ المقصود من لفظ «الأُميّ» هو الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب الآية التالية:
(وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) .( ٥)
إنّ مجيء جملة «لا يعلمون» بعد كلمة «أُمّيّون» و هذا يعني أنّ قول: ( لا يعلمون الكتاب ) جملة تفسيرية لقوله: ( أُمّيّون ) بمعنى أنّ طائفة من اليهود فاقدة للثقافة وغير قادرة على القراءة والكتابة يجهلون واقع كتابهم الذي أُنزل على نبيّهم وهو التوراة، وكذلك يجهلون محتوى ذلك الكتاب ولا يميزون بين التوراة الحقيقية وبين التوراة المحرّفة ولكونهم «أُمّيّين» تبقى معرفتهم مجرد أُمنية(٦)لا غير وفي الآية التالية يقول سبحانه:
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وََوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) .( ٧)
فالإمعان في هاتين الآيتين لا يدع مجالاً للشك والترديد في أنّ معنى الأُمّيّ في الآية ليس هو العاجز عن القراءة والكتابة واللغة السامية حيث إنّ القرآن الكريم يقسّم اليهود إلى طائفتين:
الطائفة الأُولى هي التي لا تقرأ ولا تكتب ولا تعرف عن التوراة شيئاً.
وأمّا الطائفة الثانية فهي الطائفة التي تجيد القراءة والكتابة ولكنّها تستغل ذلك لتحقيق مآربها وأهدافها السيّئة والمشۆومة حيث تسعى لنشر التوراة المحرّفة بين الناس وبصورة واسعة جدّاً لكي يتسنّى لهم من خلال هذا الطريق جمع أكبر مقدار ممكن من الثروة والمال، ولو كانت الطائفة الأُولى تُجيد القراءة والكتابة لما وقعت لقمة سائغة وفريسة سهلة لهذه الطائفة الماكرة والمخادعة ولأمكنها تمييز الصحيح من الخطأ والحق من الباطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر الأعراف:157ـ 158; البقرة:78; و آل عمران:20ـ 75; الجمعة: 2.
2- الأعراف: 152.
3- لقد أوصل الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب:4/309تلك الصفات الموجودة في الآية إلى تسع صفات والحال أنّنا إذا اعتبرنا « الإصر » و « الأغلال » صفتين متغايرتين فحينئذ يكون عدد الصفات عشر صفات.
4- الأعراف: 158.
5- البقرة: 78.
6- انّ المراد من الأماني هنا هي الخيالات والتوهّمات الواهية التي يحملها اليهود من قبيل كونهم شعب اللّه المختار.
7- البقرة: 79.
الکاتب: الشيخ جعفر السبحاني