تمرّ علينا اليوم الثامن من ربيع الآخر ذكرى استشهاد سيّدة نساء العالمين وفلذة كبد الرسول(صلّى الله عليه وآله)، فاطمة بنت رسول الله(عليها السلام) بحسب الرواية الأولى (أنّها بقيت بعد رحيل أبيها أربعين يوماً).
فاطمة الزهراء(عليها السلام) لم تبقَ بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) إلّا أيّاماً، مستديمةً الحزن والبكاء متلقّيةً من المصائب والأذى والآلام ما الله أعلمُ به، والمتأمِّل في خطاب أمير المؤمنين(عليه السلام) مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بعد دفنها يَعرِفُ عظم ما جرى عليها، ومن هذا الخطاب قوله:
«…وستُنبِئك ابنتُك بتظافر أمّتكَ على هضمها، فأحفِها السؤال واستخبرْها الحال، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجدْ إلى بثّه سبيلاً، وستقول ويَحكُمُ اللهُ وهو خيرُ الحاكمين».
فقد ارتفعت في مثل هذا اليوم من سنة 11 للهجرة النبويّة الشريفة أصواتُ البكاء من بيت عليّ(عليه السلام)، فارتجّت المدينةُ بالبكاء من الرجال والنساء، ودُهِش الناسُ كاليوم الذي قُبِض فيه رسولُ الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، واجتمعت نساءُ بني هاشم في دار فاطمة(عليها السلام) فصرخن وبكين، وأقبل الناسُ إلى عليّ(عليه السلام) وهو جالسٌ والحسن والحسين بين يديه يبكيان، وخرجت أُمّ كلثوم وهي تقول: يا أبتاه يا رسول الله! الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً.
واجتمع الناسُ فجلسوا وهم يضجّون، وينتظرون خروج الجنازة ليُصلّوا عليها، فخرج أبو ذرٍّ وقال: انصرفوا فإنّ ابنة رسول الله قد أُخِّر إخراجُها العشيّة.
تولّى الإمامُ عليّ(عليه السلام) غسلها وتكفينها هو وأسماء في تلك الليلة، ثمّ صلّى عليٌّ على الجنازة ورفع يديه إلى السماء فنادى: (اللهمّ هذه بنتُ نبيّك فاطمة، أخرجتَها من الظلمات إلى النور، فأضاءتْ ميلاً في ميل).
فلمّا هدأت الأصواتُ ونامت العيونُ ومضى شطرٌ من اللّيل تقدّم أميرُ المؤمنين والعبّاس والفضل بن العبّاس ورابعٌ يحملون ذلك الجسد النحيف، وشيّعها الحسنُ والحسين وعقيلٌ وسلمانُ وأبو ذر والمقدادُ وبريدةُ وعمّار.
ونزل عليّ(عليه السلام) إلى القبر، واستلم بضعة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلم) وأضجعها في لحدها، وقال: (يا أرضُ أستودعُك وديعتي هذه بنتُ رسول الله، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وباللّه وعلى ملّة رسول الله محمد بن عبد الله(صلّى الله عليه وآله وسلم)، سلّمتكِ أيّتها الصدّيقة إلى مَنْ هو أولى بكِ منّي، ورضيتُ لكِ بما رضي اللهُ تعالى لكِ)، ثمّ قرأ: (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى)، ثمّ خرج من القبر، وتقدّم الحاضرون وأهالوا التراب على تلك الدرّة النبويّة، وسوّى عليّ(عليه السلام) قبرها فلم يُعلَمْ أين كان ولن يُعلَمَ إلى يوم القيامة.
وغادرت الزهراء(عليها السّلام) مشتاقةً للقاء ربِّها وأبيها، ذهبت وهي تحملُ جراحاتٍ مثخنةً وآلاماً عِظاماً، انتقلت لتشكوَ إلى الله سبحانه وتعالى حتّى يحكمَ بينها وبين مَنْ ظلمها وغصَبَ حقّها.
فسلامٌ عليها يوم وُلدتْ، ويوم استُشهدتْ، ويوم تُبعَث راضيةً مرضيّة.