مداراة الناس
قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾1.
لمعرفة الشخصيّة الأخلاقيّة المطلوبة في التعامل مع الآخرين نعرض عناوين خمسة تتوزَّع بين الناس أثناء تعاملهم مع الآخرين، وهي:
الفظاظة
إنّ بعض الناس يتّصفون بالغلاظة والشدّة والفظاظة والخشونة في تعاملهم، بما يُسبِّب نفور الناس منهم، والآية السابقة توضِّح ذلك بشكل جليّ. فلو كان النبيّ فظًّا غليظ القلب، لانفضَّ المسلمون من حوله، وَلَمَا تمكَّن من نشر دعوة الإسلام فيهم.
المداهنة
وفي مقابل الفظاظة، نلاحظ أنّ بعض الناس يتصرّفون مع الآخرين بمسايرة تصل إلى حدّ المداهنة التي أكَّدت بعض النصوص سلبيَّتها، وسوء فاعلها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: “شرُّ اخوانك من داهنك في نفسك، وساترك عيبك”2.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: “أوحى الله عزّ وجلّ إلى شعيب عليه السلام: إنّي معذّب من قومك مائة ألف، أربعين ألفًا من شرارهم، وستّين ألفاً من خيارهم، فقال عليه السلام: يا ربّ، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: داهَنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي”3.
التملّق
وما يشترك مع المداهنة في سوء التعامل السيِّىء، هو التملّق الذي عرّفه الإمام عليّ عليه السلام بقوله: “الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق”4. وقد وردت أحاديث عديدة في النهي عنه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّما يحبّك من لا يتملّقك”5، وعنه عليه السلام: “ليس من أخلاق المؤمن التملّق”6.
وقد أوضح الإمام عليّ عليه السلام الأثر السلبيّ الذي يُحدِثه التملّق في الشخص المتملَّق له، فعنه عليه السلام: “كثرة الثناء ملق، يحدث الزهوّ ويدني من الغرّة”7.
الفطنة
المقصود من الفطنة الذكاء الحادّ والنباهة الشديدة مقابل الغفلة، فالمغفَّل في اللغة مَنْ لا فطنة له8.
ومن الواضح أنّ اتّصاف الإنسان بالفطنة أمر جيّد ومستحسن، إنّما الكلام في حسن الفطنة في كلّ الأمور، فهل من الأفضل للإنسان أن يكون ذا فطنة ودقّة ونباهة في جميع أنحاء علاقاته مع الآخرين؟
من الواضح أنّ التعامل مع الآخرين بحدَّة ودقَّة في جميع المجالات هو أمر متعب لكلا الطرفين، لذا وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام النصيحة بإعطاء هامش للتغافل، والتسامح في العلاقة بالناس، فعن الإمام الباقر عليه السلام في وصيَّته: “واعلم، يا بنيّ، أنَّ صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعاش ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل”9.
وقد أظهر الإمام الصادق عليه السلام المضمون نفسه في قوله عليه السلام: “صلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل”10.
وبما أنّ العلاقة الزوجيّة هي من أكثر العلاقات التصاقًا، فقد وردت حكمةٌ، لعلّها مستقاة من الحديث المتقدّم تقول: “الزواج مكيالُ ثلثه فطنة، وثلثاه تغافل”.
إذًا الفطنة وإن كانت قد تحصل من دون فظاظة، وأيضًا هي مقابل التملّق والمداهنة، إلاّ أنّ الإسلام وضع العناوين الأربعة في خانة السلب المطلق أو النسبيّ، كما نلاحظ ممّا سبق، ودعا إلى عنوان خامس
هو المداراة.
المداراة
إنّ المداراة المطلوبة في الإسلام، والمدعوّ إليها هي المسايرة التي لا تتجاوز الحقّ، وإلاّ فإنّها تتحوّل إلى المداهنة المبغوضة، وهذا ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حقّ”11، فإنْ وقفت عند حدود الحقّ كانت رأس العقل، وعنوانه، كما في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام: “عنوان العقل مدارة الناس”12، وكانت زميلة الفرائض في الأمر الإلهيّ، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض”13.
خلفيَّة المداراة
نلاحظ أنّ الإنسان عادةً يساير ويداري أهل بيته كأبيه وأمّه وولده وأخيه بسبب القرب الخاصّ بينه وبينهم، بحيث إنّه يتحمّل أخطاءً تصدر عنهم، قد لا يتحمّلها إن صدرت عن غيرهم، ويلين في التعامل معهم، في الوقت نفسه الذي قد يقسو في التعامل مع الآخرين.
وتأتي ثقافة الإسلام لتربّي المسلم على أن يتعامل مع المسلمين جميعاً كأنّهم أهل بيته، فيسايرهم ويداريهم، كما يساير ويداري أقرباءه الرحميّين، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: “وما عليك أن تجعل
المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم؟ وأيّ هؤلاء تحبّ أن تدعو عليه؟ وأيّ هؤلاء تحبّ أن تهتك ستره؟ وإنْ عرض لك إبليس لعنه الله بأنّ لك فضلاً على أحد من أهل القبلة فانظر إنْ كان أكبر منك، فقل: سبقني بالإيمان والعمل الصالح، فهو خير مني، وإنْ كان تربك، فقل: أنا على يقين من ذنبي، وفي شكٍّ من أمره، فما لي أدع يقيني بشكّي … فإنّك إنْ فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك، وكثّر أصدقاءك، وقلّ أعداؤك، وفرحت بما يكون من برّهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم”14.
هذه القاعدة منطلَق للدعوة إلى التحبّب إلى الناس، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ التحبّب إلى الناس”15، وعن الإمام عليّ عليه السلام: “إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه، وحسن اللقاء”16.
* كتاب كيف نتواصل مع الناس؟، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة آل عمران، الآية 159.
2- الواسطيّ، عليّ، عيون الحكم والمواعظ، ص 294.
3- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج5، ص56.
4- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، تصحيح محمّد مهدي الخرساني، (لا، ط)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1396هـ، ج70، ص 295.
5- الواسطيّ، عليّ، عيون الحكم والمواعظ، ص 177.
6- البروجرديّ، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص 553.
7- الواسطيّ، عليّ، عيون الحكم والمواعظ،، ص 389.
8- الفراهيدي، الخليل، كتاب العين، تحقيق مهدي المخزوميّ وإبراهيم السامرانيّ, ط1, بيروت, الأعلمي, 1988م، ج4، ص419.
9- الخزار القميّ، عليّ، كفاية الأثر، تحقيق عبد اللطيف الحسينيّ الكوهكمريّ الخوئيّ، (لا،ط)، قم، انتشارات بيدار، (لا،ت)، ص240.
10- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص 241.
11- المصدر السابق، ج74، ص 145.
12- الواسطيّ، عليّ، عيون الحكم والمواعظ، ص 339.
13- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 117.
14- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 68، ص 230.
15- الصدوق، محمّد، الخصال، ص 15.
16- الصدوق، محمّد، الأمالي، ص 531.