وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فيبينه بهذا التعبير ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟…
رأينا سابقا كيف صنع نوح (ع) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهر سطح الأرض من لوث المستكبرين الكفرة. والآن يتعرض القرآن الكريم لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟
وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فيبينه بهذا التعبير ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟
ويبدو إن احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى، والمراد بالتنور ليس تنورا خاصا، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة، وهي أن حين فار التنور بالماء – وهو محل النار عادة – التفت نوح (ع) وأصحابه إلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنه حدثت المفاجأة، فأين “الماء من النار”؟!
وبتعبير آخر: حين رأوا أن سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمرا مهما قد حدث وأنه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح (ع) وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.
ولعل قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصموا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى إنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.
في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحا ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾. لكن كم هم الذين آمنوا معه؟ ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾(13).
إركبوا بسم الله
جمع نوح (ع) ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأوشك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾.
وأخيرا حانت اللحظة الحاسمة، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل، وتباعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة “مهولة ومرعبة جدا”.
شرع المطر وتوالى مسرعا منهمرا أكثر فأكثر، وكما يصفه القرآن ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾.
ومن جهة أخرى إرتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان، وهكذا اتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلا استوعبه الماء وصار بحرا محيطا خضبا.. أما الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾.