مع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت المستعمرات قد تحرر معظمها من السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية. وظهر عصر السيطرة الأميركية بعدما انقسم العالم بين معسكرين وتحول الصراع بين أمريكا والغرب وحلفائه من جهة، وبين منظومة الكتلة الشرقية التي يتزعمها الاتحاد السوفياتي. وقد قامت بين الكتلتين الغربية والشرقية حروب ساخنة وأخرى باردة بأدوات اقتصادية ونفسية وأيديولوجية.
غير أنه مع بداية التسعينات كان الاتحاد السوفياتي قد أعلن عن هزيمته. وبهذا الإعلان لم يعد هناك محل لإمكان بروز حروب عالمية جديدة لغياب المنافس ليحل مصطلح جديد هو العولمة بحيث أصبح كل شيء عالميَّ وشموليَّ النزعة وبرزت شعارات. من مثل الديمقراطية. الحريات. الرأسمالية العالمية. حقوق الإنسان. حماية البيئة. حقوق المرأة والطفل… الإرهاب العالمي. السلام العالمي وغيرها من شعارات يمكن استخدامها استخداماً ناعماً للإطباق على الشعوب وتسخيرها لخدمة السيد الأميركي الجديد([1]).
كذلك ما يدفع أميركا إلى استخدام الحرب الناعمة أن النصر العسكري لا يعني دوماً تحقيق نصر سياسي بل قد يؤدي إلى مقاومات وازدياد كراهية الشعوب لأمريكا. ازدادت على غرار ما حدث أثناء احتلال العراق وأفغانستان حيث كراهية الشعوب لأمريكا فضلاً عن إثارة الغضب لدى شعوب أميركا وأوروبا نفسها. كذلك هناك سبب لا يقل أهمية في اتباع الحرب الناعمة وهو تخفيف الخسائر البشرية والنفقات العسكرية التي تدفع إلى الجمود في الاقتصاد الأميركي نفسه.
لقد أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية وأحس بعجزه عن فرض سياساته بالقوة وتراجع مركزيته وظهور مراكز عديدة غير غربية كالصين واليابان فضلاً عن أن الجماهير وخصوصاً في بلدان العالم الثالث باتت أكثر صحوة، ونخبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية. وأدرك كذلك أن تخلّف شعوب آسيا وأفريقيا يجعلها غير قادرة على الاستهلاك، ولا يمكن استيعابها إلا بعد أن تتقدم لتصبح شبه متقدمة وشبه مستهلكة([2]).
كان لا بد والحال هذه أن تظهر رؤية جديدة من خلال خطاب جديد يستوعب الإدراك الغربي للتكلفة العالية للمواجهة. وهنا ظهر ما يمكن تسميته الاستهلاكية العالمية. قوامها تحويل العالم إلى ساحة كبيرة. تسودها قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية. وتحويل العالم إلى مصنع وسوق وملهى ليلي.
لتحقيق هذا قرر الغرب اللجوء للإغراء والإغواء بدلاً من القمع والقسر. والاستفادة من التفكك لضرب التماسك الداخلي، إي أن التفكيك والالتفاف أجدى وأرخص من التدمير والمواجهة. وآليات الإغواء عديدة من بينها إيهام الآخر. أي أعضاء النخب المحلية الحاكمة التي تم تغريبها بأنها شريكة في عمليات الاستثمار ونهب الشعوب. كذلك يتم الإغواء للشعوب نفسها عن طريق وسائل الإعلام العالمية. وبيع أحلام الاستهلاك الوردية أو عن طريق النخب المحلية. يترافق ذلك مع عمليات فتح الحدود وتفكيك الدولة القومية وحلول المنظمات الدولية. وإثارة الأقليات ومشاكل الحدود، وتفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأخير للإنسان، والحيز الذي يحقق المجتمع داخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية([3]).
وسط هذه الرؤية ثمة افتراض كامن بأن المجتمع الأميركي، الذي حقق أعلى مستويات الإنتاجية والاستهلاكية لأعضائه، لا بد أن يصبح القدوة والمثل الأعلى.
ولكن كل هذه الآليات والأهداف تصب في هدف واحد هو ضرب الخصوصيات القومية. والمرجعية الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، وليظهر إنسان استهلاكي أحادي البعد يحدد أهداف كل يوم. ويغير قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاستهلاكية العالية الذي ينتج بكفاءة ويستهلك بكفاءة، ويعظّم لذته بكفاءة حسب ما يأتيه من إشارات وأنماط، هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية، الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة يظهر التفكيك من الداخل([4]).
الحرب الناعمة – قراءة في أساليب التهديد وأدوات المواجهة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) د. حازم الببلاوي، النظام الاقتصادي الدولي المعاصر سلسلة عالم المعرفة، العدد 257، الكويت 1995، ص 234.
([2]) د. عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر المعاصر، بيروت 2003، ص 171.
([3]) م.ن: ص172.
([4]) م.س: د. عبد الوهاب المسيري، ص174.