إنّ من أهمّ الأمور الضرورية للمجتمع الإنساني ، والتي لا يمکن له أن يستغني عنها ، وجود الحکومة التي تحفظ له حقوقه وتحدّ من التعدي عليه ، وتُنظّم له حياته التي لا تخلو من أنواع التزاحم والتعارض بين مصالح أفراده .
ويهتمّ جميع أفراد المجتمع البشري أن تمتاز الحکومة التي تتولی زمام أموره بالصلاح ، وهذه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها أحد ، وإن اختلفوا من جهة تباين معتقداتهم ونظرتهم الکونية في تعريف الأمور التي يصلح بها أمر المجتمع
ولا شكّ أيضاً من أنّ الصالحين من أفراد المجتمع يبحثون عن حاکمية الله سبحانه وتعالی ويطلبون شريعته . باعتبارها الشريعة الکاملة التي تعالج جميع إحتياجاتهم المادية والمعنوية . وهي الحاکمية المتمثلة بحاكمية الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، وحکومة الفقيه في عصر الغيبة هي في الواقع استمرارية لهذه الحکومة الإلهية .
إنّ مسألة حاکمية الفقيه العادل العارف بالأحکام الإلهية ، ليست من المسائل التي يصعب تصوّرها وتصديقها عند أهل الإيمان ، فلو نظر اللبيب إلی الأديان الإلهية يجدها تدور حول محور أساسي ورئيسي واحد لا غير . وهو محور التوحيد الذي لا يخرج عن حيطته شيء في هذا الوجود . وهو أمر فطري قد فطر الله سبحانه وتعالی الناس عليه .
وإنّ أهمّ مظاهر التوحيد في مجال التشريع يتمثل بوحدة الشريعة والقيادة ، والتي يريد الله سبحانه وتعالی من خلالها أن يجمع الناس تحت لواء واحد ، وهي من أجلی مصاديق حبله تعالی الذي أمر بالاعتصام به وعدم التفرّق عنه .
إنّ الولاية والحاکمية في الواقع إنّما هي لله سبحانه دون غيره . وإنّ أيّ خروج عن هذه الدائرة يعني الوقوع في ولاية الشيطان المتمثلة بولاية الطاغوت .
فإذا کان تعالی قد أنزل شرائعه ليحکم بها النبيون والربانيون والأحبار (العلماء) . وليقوم الناس بالقسط . وکما جاء في محکم التنزيل :
(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء)
وجاء أيضاً : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
فهل يمکن أن تتعلق إرادته في حال غياب المعصوم عليه السلام بالتخلي عن شريعته . وترك نواميس الناس ومقدّراتهم ليتحکّم بها طواغيت الأرض الذين أمر بالکفر بهم وعدم الرجوع إليهم !؟
ثمّ هل يوجد من هو أقرب من الفقهاء العدول العارفين بزمانهم من الأنبياء والأوصياء ؟ کيف وهم ورثة الأنبياء وأُمناؤهم . وغيرها من الأوصاف الأخری التي جاءت في حقهم علی لسان أهل البيت عليهم السلام . والتي أوردها الشيخ النراقي في هذا النص من کتابه عوائد الأيام :
(كلّما كان للنبي والإمام والذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم . فللفقيه أيضاً ذلك إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرها…إلى أن قال : فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات . ما صرّحت به الأخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء وأمين الرسل وخليفة الرسول وحصن الإسلام ومَثَل الأنبياء وبمنزلتهم والحاكم والقاضي والحجّة من قِبَلهم وأنّه المرجع في جميع الحوادث .)
ويقول أيضاً :
(فإنّ من البديهيات التي يفهمه (يفهمها) كل عامّي وعالم ويحكم به (بها) بأنه إذا قال نبي لأحد عند مسافرته أو وفاته : فلانٌ وارثي ومثَلي وبمنزلتي وخليفتي وأميني وحجتي والحاكم من قِبلي عليكم والمرجع لكم في جميع حوادثكم وبيده مجاري أموركم وأحكامكم وهو الكافل لرعيتي ، (فإنّ) له كل ما كان لذلك النبي في أمور الرعية ومايتعلق بأمّته بحيث لا يشك فيه أحد … سيّما بعد انضمام ما ورد في حقهم أنهم خير خلق الله بعد الأئمة .)
ويقول الشيخ الأنصاري في کتاب “القضاء والشهادات” :
(ثمّ إنّ الظاهر من الروايات المتقدمة : نفوذ حکم الفقيه في جميع الأحکام الشرعيّة . وفي موضوعاتها الخاصّة ، بالنسبة إلی ترتب الأحکام عليها ، لأنّ المتبادر من لفظ (الحاکم) عرفاً هو المتسلط علی الإطلاق . فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة : جعلت فلاناً حاکماً عليکم . حيث يُفهم منه تسلّطه علی الرعية في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئياً أو کليّاً . ويؤيّده : العدول من لفظ “الحَکَم” إلی “الحاکم” . مع أنّ الأنسب بالسياق – حيث قال : (فارضوا به حکماً) – أن يقول : فإنّي قد جعلته عليکم حکماً … إلی أن قال : وإن شئت تقريب الإستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجه أوضح ، فنقول : لا نزاع في نفوذ حکم الحاکم في الموضوعات الخاصّة إذا کانت محلاً للتخاصم . فحينئذٍ نقول : إنّ تعليل الإمام عليه السلام وجوب الرضا بحکومته في الخصومات بجعله حاکماً علی الإطلاق وحجة کذلك . يدلّ علی أنّ حکمه في الخصومات والوقائع من فروع حکومته المطلقة وحجيّته العامّة .فلا يختصّ بصورة التخاصم .)
ويقول في کتاب “المکاسب” أيضاً بالنسبة إلی ما يُستفاد من جعل الفقيه حاکماً کما في المقبولة :
(بل المتبادر عرفاً مِن نصب السلطان حاکماً ، وجوب الرجوع في الأمور العامّة المطلوبة للسلطان إليه).
وللحديث صلة ..