بقلم: الشيخ لؤي المنصوري
*(عن أبي الحسن الثاني -الامام الكاظم ع- ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المُخدَّرات بورعه في خدورهنّ).*
صناعة الوعي وتجذيره في هوية الفرد والمجتمع يحتاج تشخيص الازمة التي تعصف بكيانه وهويته العنوانية، ووضع محددات قائمة تكون مصدا امام المنعطفات والمنعرجات المتنوعة. فالتضليل خليط مهجن يعلو بريقه، ويخبو تحته السحب القاتمة، وقد ينتشي معه المغررون لكن لا يكاد يصلهم الى برالامان والاطمئنان وراحة البال( سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)، فهو نشوة السكر الذي ما فتئ عن سلب صاحبه جذوة التعقل وارومة الفكر. والسير بصاحبه في متاهات الضباب الفارغة.
والمعالج الحاذق تعوزه لا تكفيه المهارة فحسب- خصوصا في العلاج الفكري- وانما يحتاج الى الشفقة والرافة والنظر الحصيف الى المعلول، كيما يكون دواؤه ناجعا وعلاجه مجديا، يؤتي الثمار ويعيد المريض الى حالته الطبيعية ووضعه المعتاد.
والامراض الفكرية ليست بعيدة عن المجتمع بصورة عامة وعن الطوائف بشكل خاص. فاي امة مهما حملت من اسس وقوام معرفي ومنهج بين وواضح الا ان المداخل تبقى لاحبة والذروب يتغلغل اليها من شتى الطرق والمسامات الحانقة.
ولا يكفي النظر اليه وعدم الاعتناء بخطره والاتكاء على صوابية المنهج ووضوح مساره. بقدر ما يحتاج الى النزول الى عمق المشكلة والتمعن فيها والنظر في مداخلها ونقاط الضعف. وكيفية تسربها الى الذهن وتموضعها داخل النفس، بحيث ادت الى الانسياق خلفها ولو على مستوى ضئيل وفئة محدودة.
وبعض الاوبئة تكمن خطورتها اذا ما ناغمت حالة الحقانية المطلقة لدى طيف معين او شريحة ما. وتاثرت ببعض الادبيات المصطنعة في حقبة زمنية تناغما مع السياسة القائمة انذاك. فلطالما نتج عن المماحكات السياسة ضريبة كبيرة يقع الجزء الاكبر منها على الدين والرسالة السماوية الحنيفة. مما يسوق للنفس الاسراع في الاذعان والتصديق دون الرجوع الى العقل واتخاذ الضابطة القطعية معيارا في القبول. ومن ثم الايمان به وتحويله الى جزء من المنظومة العقدية بمرور الزمن.
وهنا ياتي الدور للاذن الواعية كيما تحفر في اعماق اللاوعي المحرك للوهم وتنتزع منه الداء ووهم الانطواء عليه والبناء على مخرجاته.
واعادة الامور الى نصابها، والكشف عن معالم العقيدة السليمة والنقية من الشوائب والاحابيل المزعومة.
فالمعيار الديني ان يكون المقياس الذي يقيس الانسان ميزان عمله هو القران الكريم والسنة النبوية المتوافقة مع الايات البينات والذكر المتلو على اسماع الاشهاد. وهو الفيصل الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذا ما عمد اليه الامام الكاظم عليه السلام، في تصحيح مسار العقيدة الدينية ومواجهة الانحراف الداهم. ممن يعتقد سابقا ولاحقا كما في زماننا ان الشيعي ولانتمائه لاهل البيت عليهم السلام الثقل الثاني بعد القران الكريم. والمأمورون باتباعهم والسير وفق منهجهم، حيث توهم البعض ان عنوان الانتماء كاف في عبور القنطرة والفوز بالفلاح ودخول الجنة بلا حساب ولا كتاب ، فيقف الامام عليه السلام ويغرز معوله في وعي الاتباع. مبينا ان هذا تفويض خطير ينتهي الى القضاء على الدين وابطال الرسالة كليا. حيث يقول الخبر( أبو علي الأشعري. عن محمد بن سالم، وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، جميعا عن أحمد بن النضر. عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
قال لي: يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت. فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير. وكانوا امناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت:
يا بن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا؟
فلو قال: إني أحب رسول الله فرسول الله (صلى الله عليه وآله) خير من علي (عليه السلام) ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة. أحب العباد إلى الله عز وجل [وأكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لاحد من حجة. من كان لله مطيعا فهو لنا ولي ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع)* .
فالامام عليه السلام يواجه تيارا يتبنى الرؤية العنوانية. وهو يشبه الى حد كبير بتقديم الايمان على العمل والا علاقة للعمل بذلك، بينما الحقيقة تخالف ذلك. اذ الايمان اقرار باللسان وعقد في القلب وعملٌ بالأركان. ولا يكفي فيه التبجح بالتسميات مع خلو المسمى مما يعكس العنوان. وان حقيقة المؤمن ان يكون عمله وسيرورته الخارجية والالتزام هو العنوان الحاكي عنه والمبرز لاعتقاده وايمانه وليس العكس.
فالتشيع قائم على المنهج العملي والسلوك الخارجي وما يصدر عمن ينتسب اليه. فمن تحقق فيه الورع والتقوى والزهد والاخلاص، هذا في بعده الشخصي. وما تحقق فيه عنوان التعاهد والتواصل مع اطياف المجتمع المستضعفة والتي لا تمتلك حيلة ولا حول لها. فهو من ينظر الى المجتمع من جهة الامة المعدمة والتي تعتبر في اخر الترتيب وفق الرسمالية المتوحشة.
ثم ينتقل الى ميزان المساواة بين الخليقة وان الضابطة التي حددها الله تعالى في كتابه الكريم (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) التوبة – 105، وقال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) [الصف: 2، 3].
ولا يوجد بين الله تعالى واحد من عباده قرابة تعفيه عن العمل. ولا حضوة تعطيه حق التالي والتمني دون مماحكة الصعاب وتحدي الصعاب والدخول في معترك الحياة والالتزام بالحدود التي حدها الله تعالى.
فانها عامة شاملة لكل افراد النوع الانساني عموم شمول واستغراق، ولا يخرج عن ذلك احد من اولاد ادم عليه السلام.
وان المسافة بين القرب والبعد عن الله تعالى يحددها العمل دون ضابط وميزان اخر. وما يفترضه اصحاب الانفس الضعيفة والاهواء المقيتة لا يخرج عن طور التفويض وكسر الحدود الموضوعة ومخالفة صريح الموازين. والحد الفاصل بين القرب والبعد العمل دون غيره.
ثم يطرح الامام نكتة طريفة وهي ان الائمة انفسهم لم يتحقق فيهم الايمان الا من خلال العمل، وهذا ما صرحت به الايات المبارك قال تعالى( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24، وقال عز وجل
( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) الانبياء: 73، فاذا ما كان الامام لا يتحقق الا من خلال العمل ولولا العمل لما كان قريبا منه تعالى ولما اصطفاه وانتجبه، فكيف ياتي من يدعي اتباعه ويتنصل عن العمل، ويدعي ان حب الامام تعفيه من السلوك القويم والالتزام بما حده الله سبحانه وتعالى؟
ويؤكد هذا الامر في حديث اخر فيقول الامام عليه السلام( ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه).
والخلاصة:
ان الامام عليه السلام طرح موضوع العلاقة الوطيدة بين الايمان والعمل. وان قوام الاول هو الثاني ومن دونه لا يعتد فيه. والسقف الذي بينه وان ذهل منه الراوي حتى قال ( الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة).
لانه اراد الحفر في اعماق الوعي وتاصيل عملاية المعالجة. وان عدم وجود شخص وفق هذه المواصفات لا يترتب عليه التنصل عن الهدف الحقيقي، وبناء هوية واقعية تتواءم مع العنوان. وان الاخير ليس له اعتبار اذا ما انسلخ عن معنونه المتحيث بالعمل والسلوك والاخلاق التي نادت بها الايات المباركة. والحيلولة دون الانسياق ولو مستقبلا خلف دعاوى مهلهلة تتالى على الحق تعالى. وتكتفي بالانتساب الى الامامة الحقة دون حفظ حدود الباري جل وعلا والالتزام بالضوابط والقواعد الدينية.