تهفو قلوب المؤمنين إلى تلك البقعة الطاهرة، يتلهّفون لزيارتها، تُذرف دموعهم لبعدهم عنها، يدعون ربَّهم لفكِّ أسرها، إنّها بقعةٌ احتضنت مراقد أربعةٍ من الأئمّة الأطهار عليهم السلام: الإمام الحسن، الإمام زين العابدين، الإمام الباقر، والإمام الصادق عليهم السلام.
أيّها القارئ العزيز، إذا اشتقت إلى زيارة تلك الديار، فاقرأ بعين القلب علّك تكون من الزائرين، إن شاء الله.
•التسمية
البقيع هو الموضع الذي فيه أروم الشجر (أي أصوله) من ضروب شتّى. “وهذا يشير إلى أنّها كانت أرضاً متروكة، حتّى لم يبقَ من النخيل إلّا أصوله”(1). وبه سُمِّيَ بَقِيعُ الغَرْقَدِ، وهي مقبرة مشهورة في المدينة. “والبَقِيعُ في الأَرْضِ: المَكَانُ المُتَّسعُ، ولا يُسَمَّى بَقِيعاً إِلّا وفيه الشَّجَرُ.
والغَرْقَدُ: شجر له شوكٌ كان ينبت هناك، فذهب وبقي الاسم لازماً للموضع”(2).
•الموقع
يقع البقيع في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة للمسجد النبويّ. والبقيع كان مقبرةً قبل الإسلام، حيث إنّ أهل يثرب كانوا يدفنون موتاهم فيه. وبعد الإسلام، خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط. يقع على يسار الداخل على بعد نحو خمسة عشر متراً من باب البقيع قبرَا صفيّة وعاتكة عمَّتَي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمّى هذا البقيع بـ”بقيع العمّات”، وكان مفصولاً عن بقيع الغرقد الكبير، ثمّ أُلحق به في العهد السعوديّ، وكان يوجد زقاق بين البقيع الكبير وبقيع العمّات يتّجه شرقاً، فبلغ ما ضمّ للبقيع في العهد السعوديّ (5.929) متراً.
يحيط بالبقيع سورٌ من جميع الجوانب، وله أربعة أبواب(3).
•فضل البقيع
تأتي المنزلة العظيمة للبقيع، كونه يحتضن مراقد أربعة من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، مضافاً إلى ثلّة من شهداء صدر الإسلام، وغيرهم ممّن سيأتي ذكر بعضهم، حتّى قيل إنّه دُفن في البقيع عشرة آلاف من الصحابة من المهاجرين والأنصار. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يزور هذه المقبرة ليلاً ويستغفر لأهلها(4).
وردت جملة من الأحاديث في فضل زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام، والبقيع، منها:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “وأمّا الحسن فإنّه ابني (…)، مَن زار الحسن في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزّل فيه الأقدام”(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “من زارني غفرتُ له ذنوبه، ولم يمت فقيراً”(6).
وعن الإمام العسكريّ عليه السلام: “من زار جعفراً وأباه لم يشكُ عينَه، ولم يُصبْه سقم، ولم يمت مبتلى”(7).
•أوّل من دُفن في البقيع
أوّل من دفن في البقيع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار أسعد بن زرارة الأنصاريّ، وأوّل من دفن فيه من المهاجرين عثمان بن مظعون(8).
•أهمّ من دُفن في البقيع
1- الإمام الحسن عليه السلام.
2- الإمام زين العابدين عليه السلام.
3- الإمام الباقر عليه السلام.
4- الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام.
وعلى قبور الأئمّة عليهم السلام رخامة مكتوب عليها:
“بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مبيد الأمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّدة نساء العالمين، والحسن بن عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين بن عليّ، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد (رضوان الله عليهم أجمعين)”(9).
ومن المدفونين في البقيع: إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاطمة بنت أسد، عبّاس بن عبد المطلّب، قبور زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، صفيّة بنت عبد المطّلب وأختها عاتكة، أمّ البنين، عقيل بن أبي طالب، عبد الله بن جعفر، حليمة السعديّة، شهداء أُحُد، شهداء واقعة الحَرّة، عبد الرحمن بن عوف، محمّد بن الحنفيّة، زيد بن ثابت، أبو حذيفة، المقداد بن الأسود، مالك بن نويرة، جابر بن عبد الله الأنصاري، حسّان بن ثابت، خزيمة ذو الشهادتين… وغيرهم الكثير(10).
•بيت الأحزان
اختلفت الأقوال في مدّة حياة السيّدة الزهراء عليها السلام بعد رحيل أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أربعين يوماً وستّة أشهر؛ لم تُرَ عليها السلام فيها كاشرة ولا ضاحكة.
يقول ابن شهر آشوب في المناقب: “ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة”(11).
إلى أن اشتكى بعض أهل المدينة من بكائها، بحيث طلب من الإمام عليّ عليه السلام أن تبكي بالليل وتهدأ بالنهار، أو تبكي بالنهار وتهدأ في الليل.
فبنى لها أمير المؤمنين عليه السلام بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمّى “بيت الأحزان”، وكانت عليها السلام إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين عليهما السلام أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها(12).
وفي زمان الحكومة العثمانيّة، بنوا ضريحاً صغيراً من الحديد في ذلك المكان، إلّا أنّ التهديم شمله عندما هُدّمت قباب البقيع سنة 1344هـ/1926م في زمن الوهابيّة(13).
•زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام
إذا أردت زيارة الأئمّة الأطهار عليهم السلام في البقيع، فعليك أن تأتي بآداب الزيارة من الغسل والطهارة، ولبس النظيف من الثياب، واتّخاذ الطيب، والإذن للدخول وما إلى ذلك، ننقل جزءاً من نصّ الزيارة تبرّكاً:
“السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةَ الْهُدى، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ التَّقْوى، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْحُجَجُ على أَهْلِ الدُّنْيا، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْقُوّامُ في الْبَرِيَّةِ بِالْقِسْطِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الصَّفْوَةِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ آلَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ النَّجْوى، أَشْهَدُ أَنَّكُمْ قَدْ بَلَّغْتُمْ وَنَصَحْتُمْ وَصَبَرْتُمْ في ذاتِ اللهِ، وَكُذِّبْتُمْ وَأُسيءَ إِلَيْكُمْ فَغَفَرْتُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّكُمُ الأئِمَّةُ الرّاشِدُونَ الْمُهْتَدُونَ، وَأَنَّ طاعَتَكُمْ مَفْرُوضَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَكُمُ الصِّدْقُ… فَكُونُوا لي شُفَعاءَ، فَقَدْ وَفَدْتُ إِلَيْكُمْ… فَلَكَ الْحَمْدُ إِذْ كُنْتُ عِنْدَكَ في مَقامي هذا مَذْكُوراً مَكْتُوباً، فَلا تَحْرِمْني ما رَجَوْتُ، وَلا تُخَيِّبْني فيـما دَعَوْتُ، بِحُرْمَةِ مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد“(14).
وثمّة زيارة جامعة لأئمّة البقيع عليهم السلام، كما أنّ أفضل الزيارات التي يُزار بها الأئمّة عليهم السلام هي الزيارة الجامعة الكبيرة.
1.الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، جعفر مرتضى، ج27، ص306.
2.انظر: لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص18.
3.معالم مكّة والمدينة بين الماضي والحاضر، يوسف رغدا، ص407-408.
4.معالم مكّة والمدينة بين الماضي والحاضر، (م.س)، ص409.
5.الأمالي، الصدوق، ص177.
6.تهذيب الأحكام، الطوسيّ، ج6، ص78.
7.روضة الواعظين، النيسابوريّ، ص212.
8.انظر: معالم مكّة والمدينة بين الماضي والحاضر، (م.س)، ص410.
9.التنبيه والإشراف، المسعوديّ، ص260.
10.انظر: معالم مكّة والمدينة بين الماضي والحاضر، (م.س)، ص412-433.
11.مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص127.
12.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج43، ص178.
13.معالم مكّة والمدينة بين الماضي والحاضر، (م.س)، ص439-440.
14.انظر: المزار، ابن المشهديّ، ص86-90.