مرّ زمان كان اللوردات الانكليز يعينّون معالم الخريطة السياسية للعالم بحركة أصبع اليد. فالانكليز هم أكثر دول الدنيا معرفة بالعالم فقد خبروا المعمورة وكان لهم نفوذ من استراليا حتى مناطق آسيا الوسطى، ومن شبه القارة الهندية حتى إيران والشرق الأوسط وشمال افريقيا ومصر واميركا.
تعلم الإنكليز من خبرتهم أنّ هذه المنطقة (الإسلامية) تضم من ذخائر النفط والغاز ما يؤمن مستقبل العالم للطاقة، ولها موقعا حيويا من الناحية الجيوبولتيكية بين الشرق والغرب ـ حيث لم تكن قد اخترعت الطائرات ووسائل المواصلات السريعة بعد..
لذلك كان عليهم حتى يؤمنوا وجودهم أن يفكروا في أمر الإسلام، ويحاولوا بأي سبيل تعطيل الوجدان الديني وتغييب الإسلام عن هذه المنطقة. فقد أدركوا ـ وكان تشخيصهم صائبا ـ إن بقاء الوجدان الديني يقظا واستمرار روح الإيمان الإسلامي نابضا بين الشعوب، يحول بينهم وبين تحقيقهم لمطامعهم.
وعلينا أن ننتبه الى نقطة، فحينما نتحدّث عن الإنكليز، فلا نريد إغفال دور بقية الدول الأوروبية، بل برزت في ساحة الاستعمار أسماء دول من قبيل فرنسا، إيطاليا، البرتغال، وبلجيكا، بيد أن محور العصر الاستعماري آنئذ كان يتمثل الانكليز. ففي حركة الحياة ومسارها السياسي والاجتماعي يبرز في كل عصر دور أمة من الأمم، والدور آنئذ كان للانكليز الذين مارسوا الاحتلال والاستعمار دون رحمة.
وعندما وصلوا الى البلاد الإسلامية، خططوا لفصل جيل الشباب عن الدين، وقد اختاروا لذلك طريقين سلكوهما:
الطريق الأول: ويتمثل بإشاعة الشهوات وفتح طريق الانحلال وأديان السماء جميعها تعارض إطلاق عنان الشهوات، وبالأخص الدين الإسلامي الذي ينطوي على نظم أدق من سائر الأديان في هذا المضمار.. فقد وضعت قواعد وضوابط وقيود لكيفية إرضاء الشهوة وإشباعها، وسبب ذلك أن روح الإنسان لا يمكن أن تهذّب إلاّ بتقييد الشهوة.. وإلاّ لو أطلق الإنسان العنان لشهوته يستحيل الى بهيمة، وحينئذ لا يمكن أن يتوفر على النمو الإنساني.
يتبيّن من هذه المقدمة أنّ الطريق الأسهل لمواجهة الأديان، هو أن يطلق عنان الشهوات في المجتمع ـ أي مجتمع ـ وتفتح السبل لممارسة الفساد والانحلال.
هذا هو الطريق الذي سلكوه ونفّذوه.. وقد كان سفور المرأة من أهم مظاهره ومن أبرز ما فعلوه في هذا المجال.. ومن مظاهره الأخرى إشاعة الإدمان على المسكرات. ثم تحركوا في خط آخر تمثل بتكسير أواصر الحشمة في العلاقة بين المرأة والرجل، وتحريرهما من أي قيد على هذا الصعيد.
التقدم المدني والمخترعات العلمية الجديدة مثل السينما، الراديو وغيرهما ساهم في اشاعة طريق الابتذال والشهوة على أوسع نطاق في المجتمع ويسّر للاستعمار تنفيذ مهمته دون مشقة. وعلينا أن ننتبه الى أن هذه الممارسات تختلف عن مقولة العلم والفكر. هناك من يذهب خطأ، إلى أن الذي أشاع الشهوة هو العلم، في حين نجد أنّ العلم قد نهض بعمل آخر ـ في خدمة الاستعمارـ على خط آخر سنعرض له في النقطة الآتية.
تبيّن مما مرّ أنّ الطريق الأول تمثل محتواه بتيار ثقافي محض، أشاع الفساد الفكري والعملي والتحلل الجنسي وروّج الابتذال وفتح الأبواب أمام الناس لولوجه. لذلك لا يمكن القول إنّ الطبقات المتعلمة هي وحدها التي تعرضت للفساد إثر توالي الحملات الغربية في هذا الاتجاه، وفي إيران وغيرها، وإنما نجد أنّ أكثر الطبقات التي غرفت بالفساد في عهد النظام السابق، تمثّلت بالأميين والطبقات المتوسطة في المجتمع.
والذي زاد في حمّة الفساد هي طبيعة الحياة الاستهلاكية المريحة، التي انضمت الى المخطط السابق، لتقويّه وتعضده في تيار الممارسة الاجتماعية.
الطريق الثاني: وقد تمثّل بالتيار العلمي والفكري. فمع نفوذ الفكر العلمي الجديد الى البلاد الإسلامية، الذي كان يجذب إليه الآخرين ـ إذ في العلم جاذبية بالضرورة ـ تحوّل التقدم العلمي إلى وسيلة لسلخ الناس عن الاعتقاد بالدين، واتخذ ذريعة لإطفاء شعلة الإيمان الديني في النفوس، واستئصال الوجدان الديني([1]).
واحدة من وسائل الغزو الثقافي تمثلت في السعي الحثيث لصرف الشباب عن التمسك الصلب (من الصلابة) بالإيمان.. والإيمان والذي يحفظ الحضارة. وإن الدورة الآن تشبه ما تم في الأندلس قبل قرون، حين أغرقوا الشباب بالفساد ومستنقع الشهوة والسكر([2]).
إن الصنم الذي فرضت عبادته في البرهة المعاصرة من تأريخ العالم على الكثير من أبناء البشرية.. ومن بينهم الكثير من المسلمين هو القدرة الأميركية، هذه القدرة التي تحولت الى سلطة تقبض بين يديها جميع ما يرتبط بالشؤون الثقافية والسياسية والاقتصادية للمسلمين.. وأخذت تسوق الشعوب ـ بعلم أو بغير علم ـ نحو مصالحها التي تقف في النقطة المقابلة لمصالح المسلمين.
العبادة تعني الطاعة دون نقاش (أي بتسليم). وهذا ما فرضه الاستكبار وعلى رأسه أميركا، على الشعوب، له، وساقها نحوها بأساليب مختلفة.
ومظاهر الشرك وعبودية الأصنام التي ينفذها الاستكبار وعلى رأسه أميركا، تضح في أمثلة كثيرة، منها مظاهر الفساد والفحشاء التي تروّج بين الشعوب من قبل الأجهزة الاستعمارية.. إشاعة ثقافة الاستهلاك التي اخذت تستقطب الشعوب إلى مستنقعها بوتيرة متصاعدة يوما بعد آخر، وهي تعود بأرباح متزايدة على الشركات الغربية التي تعد القلب النابض والعقل المحرك للمعسكر الاستكباري.. ومن مظاهر الشرك وعبودية القوة الأميركية كصنم هي انبساط السلطة السياسية للغرب الاستكباري من خلال الأنظمة التابعة.. ومنها التواجد العسكري الذي اكتسب شكلا أوضح بأنواع الذرائع..
هذه وأمثالها هي مظاهر للشرك ولعبودية الأصنام، وهي تقف في ضدية كاملة مع النظام التوحيدي، والحياة التوحيدية التي شرّعها الإسلام للمسلمين([3]).