إن النهضة التي حققها الإمام الخميني(قده) في الأمة، تعتبر من أهم وأعظم الحركات الثورية التي شهدها القرن الماضي، ذلك أنها أحدثت تغييراً هائلاً في حركة الأمة طال مختلف الجوانب. وباعتبار أن الإمام الخميني(قده) القائد والملهم لهذه الحركة، وهو ينتمي إلى الرؤية الدينية وتطلعاتها، ويعتمد على فكرها وثقافتها وأصالتها، كان من الطبيعي جداً ـ بل من الضروري ـ أن يستلهم الموقف والرؤية من موقعه العلمي والفقهي والفكري. ولأنه يعتقد بنهج أهل البيت(عليهم السلام)، ويفتخر بانتمائه الأصيل إلى هذه المدرسة، فإن الناتج الطبيعي لهذا الانتماء هو الاستفادة من المخزون الفكري والثوري للنهج الحسيني والكربلائي، على قاعدة أن مستوى الانحراف والضعف الذي وصلت إليه الأمة لا يعالج إلا بهذه الروح الحسينية، وهي وحدها القادرة على إعادة الحياة في شرايين الأمة، وإعادة الاعتبار لقيم الجهاد والشهادة والانتصار في مواجهة أعتى مشاريع الظلم والاستكبار والهيمنة.
إن المقولة المشهورة عن الإمام الخميني(قده)«إن كل ما عندنا من عاشوراء» على اختصارها تلخص حجم حضور النهج الكربلائي في حركة النهضة الخمينية، وترشد إلى معدن القوة في هذا النهج على إحداث تغيير على مستوى كل الأمة، لنصل إلى المعادلة التالية: لولا الروح الحسينية، لما كانت الثورة الإسلامية، ولما كان انتصارها، ولما كان ثباتها، ولما كانت كل هذه الإنجازات العظيمة التي نشهدها اليوم في أمتنا. إن هذا المفهوم له فائدة عكسية، تدلل على انتصار الإمام الحسين(ع) في كربلاء، من خلال القدرة على إيجاد هذا النهج الذي يصلح الأمة كل الأمة وعلى امتداد العصور. لكن الذي يهمنا التركيز عليه في هذا الموضوع، هو حضور هذا النهج وتأثيره ضمن العناوين الآتية:
1 ـ انتصار الدم على السيف:
إن الذي يعرف الواقع السياسي والأمني لنظام الشاه المقبور، الذي كان يرزح تحته الشعب الإيراني المجاهد، والأهمية الاستثنائية التي أولاها الاستكبار العالمي لهذا النظام البائد، والدعم الكبير الذي قدمه له عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، بحيث أصبح الظلم يعم كل الأرجاء، والسجون ممتلئة بالعلماء والثوار والمجاهدين، مع ما رافق ذلك من استهداف مركَّز لهوية الشعب الإيراني الدينية والثقافية والوطنية، ـ إن الذي يعرف كل هذه الأمور ـ يكتشف أن لا مجال لمواجهة هذا النظام إلا بالتضحية والصبر على البلاء، وتقديم قوافل الشهداء في حركة دائمة ومستمرة لا تعرف التعب أو اليأس. ولعل هذا السبب هو الذي جعل حركة الإمام الخميني تحتاج إلى عقود مليئة بالمواجهات والمظاهرات والسجن والنفي والحملات الدعائية الكاذبة. لكن الشعب الإيراني وقف خلف قيادته الشجاعة بقوة وثبات، وتحمل عبء هذه المواجهة بكل اقتدار، غير آبه لحجم ومستوى التضحيات، مستلهماً الموقف من مثله الأعلى وقدوته الخالدة في كربلاء، ومعتقداً دون أدنى تردد أن النصر سيكون حليفه في نهاية الأمر، وأن اشتداد المواجهة يخبئ خلفه الفرج الكبير والنصر الأكيد. إن هذه القناعة هي التي تتولد من ثقافة حسينية أصيلة، تجسد أروع معاني الذوبان في المبدأ والتسليم للوعد الإلهي، على قاعدة أن التغيير لا يحصل دون روحية العطاء والبذل (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) (البقرة: 207).
إن قناعة راسخة وإيماناً كبيراً وعزماً أكيداً ـ كل هذه الأمور ـ استندت إلى مقولة أثبتها التاريخ وجسدها الشعب الإيراني، وهي مقولة “انتصار الدم على السيف”.
2 ـ الشهادة وعشق سيد الشهداء(ع):
للشهادة مكانة خاصة في الثقافة الدينية، وهي مبعث قوة وفخر في الأمة الإسلامية عموماً، لكنها في حركة الإمام الخميني(قده) وفكره ونهجه تحظى بأهمية خاصة. إن الطاقة الروحية التي يستولدها العاشق للحسين بن علي(ع)، لا يمكن أن تقاس بأية طاقة أخرى. وهي لا يمكن إلا أن تكون في خدمة الدين والأمة. هذه الطاقة لا تشحن النفوس وتعبّئها فحسب، بل تؤججها وتدفعها للبذل والصبر والتحمل لتحقيق المراد وهو لقاء المحبوب والمعشوق. ولذا، لا يجوز أن يستهين أحد أو أن يخفف من أهمية العشق للحسين في صياغة شخصية قادرة على تغيير الواقع السيئ، مهما اشتد عوده واستفحل أمره.
إن قدرة منهج الإمام الخميني(قده) على تفجير طاقة العشق الحسيني في موقف جهادي يتنافس فيه المحبون للحسين، هي من المميزات الهائلة التي سخرت في خدمة الحق والأمة. فبدل أن يكون الحب مجرد بكاء ولطم وذكر المصاب ـ على أهمية ذلك، فإنه يتحول إلى مشروع استنهاض للأمة يحققه المجاهدون على أمل الشهادة ولقاء الحسين بن علي(ع).
لذا، نجد شعارات ومصطلحات هامة تغذت من رحيقها الثورة، وأصبحت عرفاً شائعاً ومحبباً في أدبيات المجتمع الإيراني، من قبيل (قوافل السائرين إلى كربلاء، قوافل العشق الحسيني…) هذه الشعارات متداولة بفخر واعتزاز امتلأت بها المدن والقرى. كما أن هذه الثقافة أرخت ظلال الاطمئنان والاستعداد للبذل والتضحية عند العوائل المحترمة للشهداء، الذين اعتبرهم الإمام الخميني مصابيح الأمة، لأن هذه العوائل الكريمة تعتبر في شهادة أحد أفرادها حظوة والتفاتة خاصة من محبوبهم وإمامهم الإمام الحسين(ع).
3 ـ الوفاء للقائد:
حين رفع الشعب الإيراني شعار (نحن لسنا أهل الكوفة لنترك الحسين وحيداً) اعتبر البعض أن في هذا الشعار تعريضاً بأهل الكوفة، وتنكراً لتضحياتهم التي لا يمكن لأحد أن ينكرها، أو أن هذا الشعار محاكمة تاريخية لا تصح بحق مجتمع عاش ظروفاً صعبة وقاسية، وغير ذلك من الانتقادات. لكن الحق يقال إن هذا الشعار كان ناظراً إلى القسم الملآن من الكوب ـ كما يقال، وهو الاستفادة مما حصل في التاريخ، لترسيخ مفهوم الوفاء والالتزام بعهد البيعة والولاية والقيادة، مهما كانت الظروف والتضحيات. وفي هذا المعنى، انتقال إيجابي من مرحلة ذكر الوقائع وتحليلها للتبرير أو الادانة، إلى مرحلة استلهام الموقف الصادق مع القائد إلى نهاية الخط. وهذا بحد ذاته انتصار على كل حملات الدعاية والتشكيك والتضليل، التي تلقى بوجه الشعوب التواقة إلى الحرية، في الوقت الذي لا يمكن لأحد أن ينكر الألم والوجع في أحداث تاريخية مشابهة مليئة بالمرارات والغصات، أفقدت الأمة في لحظة الضياع وفقدان التوازن فرصة الاستفادة من أئمتنا الأطهار(ع). فحركة الإمام الخميني(قده) تعرضت لأشرس وأبشع وأكبر حملات التضليل من قبل الأعداء وبعض الجهلة والمغفلين، وكانت الحملات تطال في قسم كبير منها شخص الإمام الخميني(قده)، والتشكيك بأهدافه تارة، وبخلفياته تارة أخرى، وتحميله أحياناً مسؤولية عشرات الألوف من الشهداء بدل أن يتم تحميل المسؤولية للاستكبار وأدواته.
إن مفهوم الوفاء والالتزام بتوجهات القائد، هو من القيم العظيمة التي تعبر عن مستوى عال من الإيمان والصدق عند الشعب الإيراني، وعن درجة عالية من الوعي والاستفادة من التاريخ لصنع مستقبل عزيز. كما أن الاستخلاص الواعي والصادق من ثورة الإمام الحسين(ع)، شكل المعبر للوعي وللتطبيق معاً.
4 ـ المنبر الحسيني وثقافة عاشوراء:
مما ذكره الإمام الخميني(قده) في وصيته للشعب الإيراني: “أن لا يغفلوا عن مراسم عزاء الأئمة الأطهار”.
إن الثقافة العاشورائية ـ ومن خلال المنبر الحسيني ـ تبقي حبل التواصل متيناً وأصيلاً مع كل الأجيال، فتصيب من خيرها الطفل والشاب والرجل والمرأة وكل المجتمع، لتكون روح الثورة عامة ودائمة ومنهجاً مستمراً وليس استثناء. وهناك فرق كبير بين ثقافة تدعو إلى الثورة ورفض الظلم حيناً، وبين ثقافة قائمة على رفض الظلم ومواجهته دوماً؛ فالأولى تنفع وتفيد الأمة، لكن الثانية تبني الأمم وتحصنها من الجور والطغيان. وهذا هو بالضبط ما تحققه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي هدف مقدس في ثورة كربلاء. وليس من قبيل المبالغة أو الشطط إن قلنا إن هذه الثقافة العاشورائية كانت مصدر الإلهام ومبعث القوة والاستقامة في حركة الإمام الخميني(قده)، عندما تلقفها الشعب الإيراني المجاهد واعتبرها أصلاً راسخاً في التربية وبناء المجتمع. فإن ما فيها من غنى وأصالة وشمول يكفي لإحياء البشرية وإنقاذها من الضلالة، ووضعها على طريق الهداية والإيمان والعدل. أوليس الإمام الحسين(ع) وارث الأنبياء والرسل(ع)؟!.