Search
Close this search box.

قصة إبراهيم خليل الله في القرآن ودورها في تحقيق مقاصده

قصة إبراهيم خليل الله في القرآن ودورها في تحقيق مقاصده

إنّ قصةَ إبراهيم عليه السّلام هي أطول قصة قرآنية بعد قصة سيدنا موسى عليه السّلام، ومساحتها تزيد على الجزء، وإن آياتها نزلت مبكرة في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن لها دور كبير في تحقيق أهداف القرآن.

وإنّ قصةَ إبراهيم عليه السّلام هي أطول قصة قرآنية بعد قصة سيدنا موسى عليه السّلام، ومساحتها تزيد على الجزء، وإن آياتها نزلت مبكرة في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي لها دور كبير في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده التي نذكر منها:

إبراهيم عليه السّلام مَثَلٌ أعلى للبشر

كشفت قصة إبراهيم عليه السّلام عن ملامح الشخصية السويّة القدوة التي ينبغي أن تكون المثل الأعلى في التزام الإسلام، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37].

أصبح إبراهيم عليه السّلام رمزًا من رموز التوحيد في عصره، وفي كل العصور، قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]. وقد أوصى إبراهيم بنيه وذريته بتلك الكلمة، فاستجابوا له وبلّغوها الأجيال من بعده، وظلت كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” متصلة في عقِبه وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل عليه السّلام وأشبَه أبنائه به محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاتم الرسل الذي دعا إلى التوحيد وإفراد العبادة لله عزّ وجل، وحارب الكفر والشرك بكل أنواعه وأشكاله.

التوحيد الخالص

أظهرت قصة إبراهيم عليه السلام أن دين الأنبياء جميعًا هو التوحيد الخالص والدين الحنيف من لدن إبراهيم عليه السّلام حتى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا يعمق ثقة المسلمين بدينهم أنه أحسن دين، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125].

وقال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]، وبيّنت القصة أيضًا أن أي انحراف عن التوحيد الخالص يفقد الإنسان صلته بالأنبياء حتى لو كانوا حقيقة من صلبه فهذا إبراهيم عليه السّلام يتبرأ من أبيه عندما انحرف عن دينه التوحيد: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، فكيف بالمنحرفين عن دين إبراهيم عليه السّلام في الأجيال اللاحقة؟

وهكذا تكون قصة إبراهيم عليه السّلام ردًّا على كل منحرف عن دين التوحيد كالعرب المشركين واليهود والنصارى الذين انحرفوا عن رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، واستغلّوا الدين في إضفاء شيء من القدسية عليهم لقيادة البشرية.

ولقد أثبتت قصة إبراهيم عليه السّلام أن هؤلاء ليسوا على دين إبراهيم ولا من أتباعه أو ورَثته، وليس لهم أي صلة بإبراهيم عليه السلام لأن الوراثة الحقيقية لإبراهيم هي الوراثة الإيمانية فقط، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:68].

عمق العلاقة بين إبراهيم عليه السلام والمسلمين

عمّقت القصة الصلة بين إبراهيم عليه السّلام أبي الأنبياء والمسلمين أتباع خاتم الأنبياء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فذكر إبراهيم في القرآن الكريم تكرر 69 مرة في 25 سورة مكيّة ومدنيّة، ومشاهد قصته موزعة في ثنايا القرآن الكريم على مدى 17 جزءًا، وهذا يعني أنَّ ذِكر إبراهيم عليه السّلام حاضرٌ في الذهن لا يغيب عن ذاكرة المسلم أبدًا لأنه رمز من رموز التوحيد ورمز من رموز الإسلام وقدوة المسلمين جميعًا، ويؤكد هذا التعقيب على قصة إبراهيم عليه السّلام في سورة الأنعام مخاطبًا محمدًا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا المعنى ما قصده القرآن الكريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41].

ولقد جاءت الصلاة المكتوبة والنافلة لتعمّق هذا المعنى في نفوس المؤمنين، في بدايتها نتوجه للقبلة جهة الكعبة المشرّفة التي بناها إبراهيم عليه السّلام، وفي خاتمتها في الجلوس الأخير نختم بالدعاء المأثور (الصلاة الإبراهيمية)، وجاءت مناسك الحج لتعمّق هذا المعنى أيضًا، ففي بداية المناسك يجب الإحرام الذي من مظاهره التلبية: لبيك اللهم لبيك.. إلخ استجابة للأذان الذي رفعه إبراهيم عليه السّلام مناديًا بالحج، وذلك كما أمره الله عزّ وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، وفي ختام المناسك يجب طواف الوداع حول الكعبة المشرّفة التي بناها إبراهيم عليه السّلام.

هذا فضلا عن المناسك الأخرى في الحج، التي تذكّرنا بإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وزوجه هاجر عليها السلام، كالسعي بين الصفا والمروة، وبئر زمزم، ومقام إبراهيم، والأضحية وهي قصة الفداء العظيم وغيرها من المناسك.

كذلك جاءت الأذكار تذكّرنا بإبراهيم الخليل عليه السّلام، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غِراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .

صفات الملائكة ووظائفهم

وكشفت لنا قصة الخليل إبراهيم عليه السّلام عن بعض صفات الملائكة ووظائفهم، وهذا جزء من عقيدتنا الإسلامية “الإيمان بالملائكة”، وهذه الصفات ظهرت في مشهد ضيوف إبراهيم عندما أتى رسل الله يبشّرون إبراهيم بالغلام العليم “إسحاق” عليه السّلام، ومن ورائه “يعقوب” عليه السّلام، فالقصة أثبتت أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وعندهم القدرة على التشكّل بصورة إنسان، وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وغير ذلك من الصفات.

أهمية الحوار والهجرة في الدعوة إلى الله

استطاعت قصة إبراهيم عليه السّلام أن تزودنا بتجارب قيّمة لإبراهيم في مجال الحوار والدعوة إلى الله، والتزام أوامره، فهو القدوة منذ صغره وحتى الكبر، وأيضًا زودتنا بتجارب قيمة لآخرين تربّوا على يد إبراهيم عليه السّلام كزوجه وأبنائه، فالقصة أثبتت أن هذه الأسرة مباركة، وأنها مدرسة للتربية الإسلامية، ومحضن من محاضنها، لا نستغني عن مناهجها أبدًا في أي تربية إسلامية، وميزة هذه التجارب أنها خالصة لوجه الله الكريم ونابعة من عقيدة ثابتة، وميزة أخرى: أنها تجارب متنوعة جرت على أراضٍ مختلفة وفي بيئات مختلفة لشخصية سويّة قدوة للمسلمين، وهكذا تعمّق قصة إبراهيم الوعي عند المسلمين وتزيدهم خبرة في أكثر من مجال.

صلة المسلمين ببيت المقدس

وتُعمّق قصة إبراهيم عليه السّلام صلة المسلمين ببيت المقدس، وتجعله جزءًا من عقيدة المسلمين التي لا يمكن التنازل عنها بأي حال من الأحوال، فقد هاجر إبراهيم من العراق إلى بيت المقدس وما حولها واستقرّ فيها، وعاش بين ربوعها، ومات فيها ودفن فيها، ومكان قبره ثابت في مدينة الخليل، ومن فلسطين انطلقت رحلات إبراهيم عليه السّلام إلى مصر وإلى الحجاز وإلى غيرها من البلدان، وأكثر الرحلات تكرارًا هي رحلاته من فلسطين ومكة المكرّمة، ليتفقّد ابنه وزوجه هناك، وليؤدي فريضة الحج التي أمره الله بها وأراه مناسكها، فهذه الرحلات المتكررة لإبراهيم عليه السّلام عمّقت الصلة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك وأصبحت جزءًا من عقيدة المسلمين لا يجوز التنازل عنها أو التفريط بها أبدًا.

وجاءت حادثة الإسراء والمعراج لسيدنا محمد (صلّى الله عليه وسلّم) تأكيدًا لهذه الصلة مرة ثانية، وتعميقا لهذا المعنى تمام التعميق، وجاءت القبلة للمسجد الأقصى أشهرا عدة لتزيد صلة المسلمين بالمسجد الأقصى، وجاء الفتح العمري لبيت المقدس وإتيانه شخصيًّا لاستلام مفاتيحها ليؤكد أهمية بيت المقدس في نفوس المؤمنين، وهكذا تأتي قصة إبراهيم لتُثبت أن صلة المسلمين ببيت المقدس قديمة جدًا وعميقة الجذور في التاريخ الإنساني منذ إبراهيم عليه السلام .

إثبات أن القرآن الكريم من عند الله

وأثبتت قصة إبراهيم أن القرآن الكريم من عند الله العليم الخبير، ونسجّل بعض الإثباتات -على سبيل المثال- كما يأتي:

عدم تناقض مشاهد قصة إبراهيم مع بعضها رغم اختلاف مواضيع السور التي ذكرتها، ورغم اختلاف المدة الزمنية التي نزلت فيها، وهذا يدل دلالة واضحة أن القرآن الكريم من عند الله كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].هذا التناسق العجيب بين كل مشهد من مشاهد قصة إبراهيم وبين السورة التي ذكرته من حيث الموضوع والسّبك في السياق يؤكد أن القرآن الكريم من عند الله لأن هذا التناسق ضربٌ من الإعجاز.من خواتيم قصة إبراهيم عليه السّلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، وهذه من أواخر المشاهد في حياة إبراهيم عليه السّلام، وهو مشهد يصلح أن يكون خاتمة فنية للقصة لأنه مشهد قوي ومؤثر ونهايته مفتوحة تجعل الخيال منشغلًا بصورة مستمرة ومتواصلة بعد إغلاق الستارة، وهذا ضرب من الإعجاز يؤكد أن القرآن من عند الله، وأيضًا تحقيق ما في الخاتمة من معانٍ بعد ذلك يؤكد أن القرآن من عند الله: من الذي أوصل صوت إبراهيم للناس أجمعين، فجاؤوا ملبّين هذا النداء في الحج والعمرة من كل فج عميق؟ طبعًا هو الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يؤكد أن القرآن من عند الله.

الاستفادة من سنن الله وحسن التعامل معها

أظهرت قصة إبراهيم بعض السنن والقوانين، وعلى سبيل المثال:

*أنَّ تكذيب الأنبياء وابتلاءهم سنة وقانون

*أي تضحية في سبيل الله تعوَّض في الدنيا وفي الآخرة.

*أنَّ التمكين في الأرض والنصر لا يأتي إلا بعد الابتلاء والجهد والمعاناة.

وأخيرًا، فإن هذه النقاط الثماني لأهمية قصة إبراهيم في القرآن الكريم ذُكرت على سبيل المثال لا الحصر لأن كل مشهد من مشاهد القصة القرآنية جاء في مكانه ليعالج حالة معينة في واقع الحياة ويحقق أكثر من هدف وأكثر من مقصد.

بقلم د. علي الصلابي؛ مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي حاز درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بمؤلفه فقه التمكين في القرآن الكريم، له العديد من المؤلفات الفكرية والتاريخية

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل